لقد تبين لنا، بما لا يقبل الشك، أن ابن عبد البر ألّف "التمهيد" أولًا مسودةً، ونُسخت عن هذه المسودة العديد من النسخ، بل أكثر النسخ المتوفرة في المغرب وبلاد الشام والعراق منها. ثم أعاد تبييض الكتاب، فزاد فيه زيادات كثيرة جدًا، وحذف مما كَتَبَ في المسودة بعض ما رآه غير مناسب، أو هو مما أَشبع القولَ فيه في المبيضة (الإبرازة الأخيرة)، فصار المذكور في الإبرازة الأولى في بعض الأحيان مكررًا.
وهذه الحقيقة لم ينتبه إليها جميع مَن نشر الكتاب سابقًا، وفي مقدمتهم السادة الفضلاء محققو الطبعة المغربية الصادرة عن وزارة الأوقاف، فقد قال محقق المجلد الثالث منه في مقدمته:"كل نسخة يوجد فيها بتر، إما في أولها أو في وسطها أو في آخرها. . . وهناك صعوبة أخرى تعترض المحقق، وهي أنه يوجد في بعض النسخ ما ليس في الأخرى".
وقال الشيخ الفاضل سعيد أحمد أعراب في تقديمه للمجلد الرابع:"وأولُ ما يلاحظ القارئ لهذه النسخ الخطية اختلاف أجزائها، ثم كثرة الفروق بينها في الكلمات والجمل، وما يوجد في بعضها من زيادات تصل أحيانًا إلى صفحة أو أكثر، وهو أمر لا نجد له تفسيرًا، إلا أنَّ المؤلف الذي عاش مع هذا الكتاب ثلاثين حجةً أو تزيد، قد حوَّر كثيرًا من عباراته، وأضاف إليه إضافات، ومن الطبيعي أن تختلف نسخه، كما تختلف طبعات الكتاب الواحد في عصرنا اليوم". وهذه إلماحةٌ جيدة من هذا الشيخ الذي يُعدُّ -فيما أرى- أفضل المحققين الذين تصدّوا لهذا الكتاب على ما اعتَوَرَ منهج التحقيق المتبع فيه من نقص، فقد اختار "طريقة التلفيق بين النسخ، لعدم وجود أصلٍ صحيح يمكن الاعتماد عليه" فيما ظنَّ، وهي طريقة غير محمودة عند وجود إبرازتين للكتاب الواحد، إذ يتعين اعتماد الإبرازة الأخيرة منه حسبُ.
ونسخة كوبريلي هي الممثلة للإبرازة الأخيرة، وكذا بعض المجلدات المفردة التي أشرنا إليها عند كلامنا على النسخ المعتمدة في التحقيق من هذه المقدمة.