ومن أمثلة الفروق الكبيرة بين الإبرازتين الأولى والثانية: أن المصنِّف رحمه اللَّه كان قد كتب في صدر كتابه ترجمةً وسيعةً للإمام مالك بن أنس، يرحمه اللَّه، ثم رأى بعد ذلك حذْفَها ونقلها إلى كتابه "الانتقاء في فضل الثلاثة الفقهاء"، فقد جاء في حاشية الورقة (١٢ أ) من الأصل ما يأتي:
"كان أبو عمر بن عبد البر رحمه اللَّه قد بوّب بعد هذا في صدر هذا الديوان بابًا ذَكر فيه فضائل مالك وتوقيه في النقل، وجملةً من سِيَره وإمامته في الدين، فلما ألَّف كتاب الانتقاء في فضل الثلاثة الفقهاء، نقل ذلك الباب إليه، وأزاله عن التمهيد، فلذلك سقط ذلك الباب من هذه النسخة وأكثر النسخ، وبقيت الإحالةُ عليه في هذا الموضع".
قلتُ: بقي هذا الباب في نسختَي (ق) و (ف ١) كونهما من الإبرازة الأولى، ومع ذلك بقي في طبعة وزارة الأوقاف، وفي الطبعة التي جُمدَتْ فيها شروح الموطأ، والتي نشرها مركز هجر للبحوث والدراسات العربية والإسلامية، مما يدلُّ على عدم إدراكهم لهذا الأمر، وعدم التزامهم بتحقيق رغبات المؤلف على الرغم من الإشارة المذكورة في نُسخة الأصل.
وقد حذف ابن عبد البر فقرات كثيرة، إما بسبب أنه جاء ببديل عنها، وإما أنه وجدها غير خادمة لبحثه، من ذلك مثلًا لا حصرًا حذفه لحديث أُبيّ بن كعب في تمهيد الحديث السادس لزيد بن أسلم (٣/ ٧٠) حيث جاء في الإبرازة الأولى:
"وفي حديث أُبي بن كعب عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنه قرأ بسورة من الطُّوَل، ثم ركع خمس ركعات، وسجد سجدتين، ثم قام إلى الثانية فقرأ بسورة من الطول، ثم ركع خمس ركعات، وسجد سجدتين، ثم جلس كما يدعو، ثم انجلى كسوفها. وقد يحتمل أن يكون قوله: "سورة من الطول" في تقديره، والظاهر فيه الجهر واللَّه أعلم، ولكنه حديث يدور على أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أُبيٍّ، وقد تُكُلِّم في هذا الإسناد". قلنا: ولا يصح هذا مع قوله بعده: "وسفيان بن حسين في الزهري ليس بالقوي إلخ " فهو يتكلم على الحديث الذي قبله، فكأن المصنف كتبه ثم حذفه بعدُ في النشرة الأخيرة حيث لم يرد في ك ٢.