للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حديثٌ خامسٌ وثلاثونَ منَ البلاغات

مالكٌ (١)، أنَّه بلَغه أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- دخَل المسجدَ فوجَد فيه أبا بكرٍ الصدِّيقَ وعُمرَ بنَ الخطاب، فسألَهما، فقالا: أخرَجَنا الجوعُ يا رسولَ الله. فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "وأنا أخرَجَني الجوعُ". فذهَبوا إلى أبي الهيثم بنِ التَّيِّهانِ الأنصاريِّ، فأمَر لهم بشعيرٍ عندَه يُعمَلُ، وقام فذبَحَ لهم شاةً، فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "نكِّبْ عن ذاتِ الدَّرِّ". فذبَح لهم شاةً، واستَعذَب لهم ماءً، فعُلِّق في نَخْلةٍ، ثم أُتُوا بذلك الطعام فأكَلوا منه، وشرِبوا من ذلك الماء، فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "لَتُسألُنَّ عن نعيمِ هذا اليوم".

وهذا الحديثُ يستندُ من وُجُوهٍ صِحاح من حديثِ أبي هُريرةَ وغيرِه (٢).

وفيه ما كان القومُ عليه في أولِ الإسلام من ضِيْق الحالِ وشظَفِ العيش، وما زال الأنبياءُ والصالحون يجُوعون مرّةً، ويشبَعون أخرى، وتُزوَى عنهم الدُّنيا.

وفيه طلَبُ الرزق، والنزولُ على الصديقِ وأكلُ مالِه، والسُّنةُ في الضيافة، وبرُّ الضَّيْفِ بكلِّ ما يُمكِنُ ويحضُرُ إذا كان مستحِقًّا لذلك.

وفيه كراهيةُ ذَبْح ما يجري نفعُه مُياوَمةً (٣) ومداومةً كراهيةَ إرشاد، لا كراهيةَ تحريم.

وفيه استعذابُ الماءِ وتخيُّرُه وتبريدُه للريح، وغيرُ ذلك في معناه.

وفيه دليلٌ على أنَّ ما سَدَّ الجوعَ وستَر العورةَ من خَشِنِ الطعام واللباس، لا يُسألُ عنه المرءُ في القيامة، واللهُ أعلم، وإنما يُسألُ عن النعيم. هذا قاله ابنُ عُيينة،


(١) الموطّأ ٢/ ٥٢١ (٢٦٩٣).
(٢) سيأتي بإسناد المصنِّف من عدّة وجوه مع تخريجه في أثناء هذا الشرح.
(٣) أي: يومًا بيوم. ينظر: اللسان (يَوَم).

<<  <  ج: ص:  >  >>