للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

له، فالتَفَت فإذا هو بحذيفةَ إلى جنبِه، فلقَّنه إيَّاها، فنظَر حذيفةُ، فإذا عمرُ، فلقَّنه إيَّاها، فلمَّا كان في خلافةِ عمرَ ونظَر في الكَلالَةِ لَقِيَ حذيفةَ، فسأله عنها، فقال حذيفةُ: لقَّننِيها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-، فلقَّنتُكَ كما لَقَّنني، والله لا أزِيدُك على هذا أبدًا (١).

قال أبو عُمر: طعَن قومٌ من المُلْحِدِين على عمرَ رضِي اللهُ عنه في هذه القصةِ، ونسَبوه إلى قِلَّةِ الفَهمِ، فأوضَحوا جَهلَهم، وكشَفوا قِلَّة فَهمِهم، وسَرَّحوا عن بدعتِهم، وقد عرَف المسلمون موضِعَ فِطْنةِ عمرَ وفَهمِه وذكائِه، حتى لقد كان يسْبِقُ التنزيلَ بفِطنتِه، فينزِلُ القرآنُ على ظنِّه ومُرادِه، وهذا محفوظٌ معلومٌ عنه في غيرِ ما قصةٍ؛ منها نزولُ آيةِ الحجابِ، وآيةِ فِداءِ الأسرى، وآية: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: ١٢٥]. وآية تحريم الخمر، وغير ذلك مِمَّا يطولُ ذِكْرُه. ولا يجهَلُ فضائلَه وموضِعَه من العلم إلَّا من سَفِه نفسَه. ولَعَمرِي، إنَّ في هذا الخبرِ عنه في الكَلالَةِ ما يَزِيدُ في فضلِه، ويوضِّحُ عن فَهمِه ومنزلتِه عندَ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنَّه لو لم يكنْ عندَ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- ممَّن يقومُ باستخراجِ التأويلِ، وَيَسْتَنبِطُ المعانيَ من التنزِيلِ، لَمَا رَدَّ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- هذا ومثلَه إلى نظَرِه واستِنباطِه، وإلى بصَرِه واستِخراجِه، ولَمَا قال له: "يكفِيكَ آيةُ الصَّيْفِ". ولو كان عندَه مِمَّن لا يُدرِكُ استِخراجَ التأويل مِن ظاهِرِ التنزِيلِ، لَمَا كفَتْه عندَه الآيةُ، ولَبيَّنَ له ما يَحتاجُ مِن ذلك إليه، وأوضَحَ له ما أشكَل عليه؛ إذ كان بيانُه واجبًا لازمًا له -صلى الله عليه وسلم-.


(١) أخرجه البزار في مسنده ٧/ ٣٦٧ (٢٩٦٥) عن يوسف بن حمّاد المَعْنيُّ ومحمد بن مرزوق عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى، به.
وأورده ابن كثير في تفسيره ٤/ ٤٠٠ بإسناد البزار وقال: "وكذا رواه ابن مردوية من حديث عبد الأعلى"، وزاد نسبته السيوطي في الدر المنثور ٢/ ٧٥٦ للعَدَنيّ وأبي الشيخ في القرائض وقال: بسند صحيح إلى حذيفة.
قلنا: رجاله ثقات غير أبي عبيدة بن حذيفة بن اليمان فهو صدق حسن الحديث، قد روى عنه جمعٌ ووثَّقه العجلي، وذكره ابن حبان في الثقات كما في تحرير التقريب (٨٢٢٩)، فإسناده حسن.

<<  <  ج: ص:  >  >>