من غيرِ روايةِ مالك، وكلَّ مُرْسَلٍ جاء مُسْنَدًا (١) من غير طَريقِه رحمةُ اللَّه عليه، فيما بلَغني علمُه، وصَحَّ برِوايتي جَمْعُه؛ ليرَى الناظِرُ في كتابِنا هذا مَوقِعَ آثارِ "الموطّأ" من الاشتهارِ والصِّحَّة، واعتمدْتُ في ذلك على نَقْلِ الأئمّة، وما رَواه ثقاتُ هذه الأمَّة. وذكرتُ من معاني الآثارِ وأحكامِها المقصودَةِ بظاهرِ الخطابِ ما عَوَّل على مثلِه الفقهاءُ أُولو الألباب. وجلبتُ من أقاويلِ العلماءِ في تأويلها، وناسخِها ومَنْسوخِها، وأحْكامِها ومعانيها، ما يشتَفي به القارِئُ الطالبُ ويُبَصِّرُه، ويُنبِّهُ العالمَ ويذكِّرُه. وأتَيْتُ من الشَّواهدِ على المعاني والإسنادِ بما حضَرني من الأثَرِ ذِكْرُه، وصحِبَني حِفْظُه، ممّا تعْظُمُ به فائدةُ الكتاب. وأشرْتُ إلى شرْح ما اسْتعجَم من الألفاظ، مُقتَصِرًا على أقاويلِ أهلِ اللغة. وذكَرْتُ في صدْرِ الكتابِ من الأخبارِ الدالَّةِ على البحثِ عن صحّةِ النَّقل، ومَوضع المُتَّصِلِ والمُرْسَل، ومن أخْبارِ مالكٍ رحمه اللَّه، وموضعِه من الإمامةِ في علم الدِّيانة، ومكانِه من الانتِقادِ والتَّوَقِّي في الرِّواية، ومنزلةِ "مُوَطَّئِه" عند جميع العلماء، المُوالفين منهم والمُخالِفين، نُبَذًا يستَدِلُّ بها اللَّبيبُ على المُراد، وتُغْني المقتَصِرَ عليها عن الازدِياد.
وأومَأْتُ إلى ذِكْرِ بعضِ أحوالِ الرُّواةِ وأنسابِهم وأسنانِهم ومَنازلِهم، وذِكْرِ مَن حَفِظْتُ تاريخَ وفاتِه منهم، مُعْتمِدًا في ذلك كلِّه على الاختصار، هاربًا عن التَّطويلِ والإكْثار. واللَّهَ أسألُه العَونَ على ما يرضاه، ويُزْلِفُ فيما قصَدْناه، فلم نَصلْ إلى شيءٍ مما ذكَرْناه إلّا بعونِه وفضلِه، لا شريكَ له، فله الحمدُ كثيرًا دائمًا على ما ألْهَمَنا من العنايةِ بخيرِ الكتب بعد كتابِه، وعلى ما وَهَب لنا من التَّمَسُّكِ بسُنّةِ رسولِه محمدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وما توفيقي إلّا باللَّه، وهو حسبي ونعم الوكيل.
(١) إلا أربعة بلاغات لم يجد لها إسنادًا، جمعها ابن الصلاح وأسندها في رسالة سماها "وصل البلاغات الأربعة في الموطأ".