للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولم يكنْ له ولا لأصحابه عمالٌ يعملونَها ويزرَعونَها، فدعا يهودَ خَيْبر وقد كانوا أُخرجوا منها، فدَفَع إليهم خَيْبرَ على أنَّ يعمَلوها على النِّصف يؤدُّونَه إلى النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال لهم: "أُقِرُّكم على ذلك بما أقَرَّكمُ اللهُ" فكان يبعَثُ إليهم عبدَ الله بنَ رَواحةَ فيَخرُصُ النَّخلَ حين يَطِيبُ أولُه، ثُم يُخيِّرُ يهودَ يأخُذونَها بذلك الخَرْص أو يدفعونَها بذلك الخَرْص، وإنّما كانَ رسولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرَ بالخَرْص في ذلك لكي تُحصى الزّكاةُ في ذلك قبلَ أن تؤكَلَ الثمرة (١).

وفيه مِن الفقهِ: إثباتُ خبرِ الواحدِ، ألا ترى أنَّ عبدَ الله بنَ رواحةَ قدِم على أهلِ خيبرَ وهو واحدٌ، فأخبرَهم عن النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحكم كبيرٍ في الشريعةِ، فلم يقولوا له: إنَّك واحدٌ لا نُصدِّقُك على رسولِ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ولو كان خبرُه وحدَه لا يجبُ به الحكمُ، ما بعَثه رسولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحدَه.

وفيه: أنَّ المؤمنَ (٢) وإنْ أبغَض في الله، لا يحمِلُه بغضه على ظُلم مَن أبغضَه، والظَّالم نفسَه يظلمُ، قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الظُّلمُ ظُلمات يومَ القيامةِ" (٣).

وفيه: دليل على أنَّ كلَّ ما أخذَهُ الحاكمُ والشاهدُ على الحكم بالحقِّ أو الشَّهادةِ بالحقِّ سُحتٌ، وكلُّ رِشوةٍ سُحتٌ، وكلُّ سُحتٍ حرامٌ، ولا يحلُّ لمسلم أكلُه، وهذا ما لا خلافَ فيه بينَ علماء المسلمينَ. وقال جماعةُ أهلِ التَّفسيرِ في قولِ الله عزَّ وجلَّ: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: ٤٢]، قالوا: السُّحتُ: الرِّشوةُ في الحكم (٤). وقيل: السُّحتُ كلُّ ما لا يحلُّ كسبُه (٥).


(١) أخرجها عبد الرزاق في المصنَّف (٧٢٠٣)، ولكن عن ابن جريجٍ، عن الزهري.
(٢) في ر ١: "المأمون".
(٣) حديث صحيح روي عن عدد من الصَّحابة، منهم: ابن عمر، وحديثه عند البخاري (٢٤٤٧)، ومسلم (٢٥٧٩)، وغيرهما.
(٤) ذكر البغوي في تفسيره ٢/ ٥٣ أنه قول الحسن ومقاتل، وقتادة والضَّحاك، ومرويات هؤلاء وغيرهم عند الطبري في تفسيره.
(٥) غريب القرآن لأبي بكر السِّجستاني، ص ٢٧٥، والمحرر الوجيز لابن عطية ٢/ ١٩٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>