ومصر، والعراق، وتركيا، وجزيرة العرب وغيرها، فدرسها وصَنّفها وأبان عن مزاياها واكتشف دون غيره أنَّ النسخ الخطية المتوفرة من هذا الكتاب تمثل إبرازتين: إبرازة أولى كانت المسوّدة، ثم إبرازة أخرى هي المبيضة، فعمل بما توفر له من خبرة في هذا الشأن امتدت على أكثر من نصف قرن على تمييز الإبرازة الأخيرة التي ارتضاها ابن عبد البر في آخر الأمر بعد أن حذف ما رآه حريًا بالحذف، وزاد ما فاته من نصوص وآراء نضيجة في الإبرازة الأولى، فأفاد وأجاد.
بذل المحقق الدكتور بشار عواد معروف جهدًا متميزًا في تحقيق هذا الكتاب امتد على أكثر من عشرين عامًا، وهو ينعم النظر في هذا النص ويبديه، لأنه يعده أمانة وديانة يعينه في ذلك كله، بعض تلامذته النّجب ومنهم ولده الدكتور محمد بشار، فيعيد المقابلة بين النسخ أكثر من مرة، وينظم مادة النص، ويضبطه بما يدفع عنه اللبس وسوء الفهم ويؤدي إلى قراءة سليمة تعين المستفيد منه في قابل الأيام، ويرجح بين الروايات بعد تعليلها، ويشير إلى مناجمه ويقابل النص بها وينبّه إلى أي خُلْف قد يقع عند الاقتباس، ويعيد الآراء الفقهية إلى مظانها، كل مذهب من موارده المعتبرة، وموارد الفقه المقارن، والأصول التي اعتمدها المؤلف عند الاقتباس.
وعني المحقق عناية خاصة بتخريج الأحاديث التي اعتمدها المؤلف وأبان عن قوتها وضعفها وعللها الظاهرة والخفية؛ لأن الأحكام إنما تتأتى استنادًا إلى ثبوتها عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من عدمه، وهو فارس هذا الميدان الخطير الذي استشف بواطنه وعرف خفاياه، فتراه يصول فيه ويجول يبين المبهم ويوضح الخفي ويكشف عما خفي من علل الأحاديث ويظهر وجه الصواب فيها.
إن المقدمة العلمية النقدية الوسيعة التي صدر بها المحقق عمله تنبئ عن الجهد المحمود الذي بُذل في إخراج هذا الكتاب بهذه الهيئة التي آمل أن تسر كل محب للتراث حريص عليه، وتكون أُنموذجًا يحتذى في جودة إخراج النصوص والعناية بها.