من بئرِ السُّقيا (١). وفي هذا المعنى، واللَّهُ أعلم، قولُ أنسٍ في هذا الحديث، أنَّ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يأتي بَيْرُحاءَ ويَشرَبُ من ماءٍ فيها طيِّب، فوصَفه بالطَّيِّب.
وفيه استعمالُ ظاهرِ الخِطابِ وعُمومِه، وأنَّ الصحابةَ رضيَ اللَّهُ عنهم لم يَفهَموا من فحوَى الخطابِ غيرَ ذلك، ألا ترَى أنَّ أبا طلحةَ حينَ سمع:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} لم يَحتَجْ أن يقِفَ حتى يَرِدَ عليه البيانُ عن الشيء الذي يريدُ اللَّهُ أن يُنفِقَ منه عبادُه بآيةٍ أُخرى، أو سُنّةٍ مُبيِّنةٍ لذلك، فإنَّهم يُحبُّون أشياءَ كثيرة. وفي بدارِ أبي طلحةَ إلى استعمالِ ما وقَع عليه معنَى حُبِّه في الإنفاق منه، دليلٌ على استعمالِه معنى العموم، وما احتمَل الاسمُ الظاهرُ منه، في أقلِّ ذلك أو أكثرِه. وفي هذا ردٌّ على مَن أبى من استعمالِ العُموم لاحتمالِه التَّخصيص، وهذا أصلٌ من أُصولِ الفقهِ كبيرٌ، خالفَ فيه أهلُ الكوفةِ أهلَ الحجاز، وهو مذكورٌ في كُتبِ الأُصولِ بحُجَجِه ووُجُوهِه، والحمدُ للَّه. والاستدلالُ على ذلك بأنَّ أبا طلحةَ بَدَر مما يُحِبُّ إلى حائطِه، فأنفَقه وجعَله صدقةً للَّه
(١) أخرجه ابن سعد في الطبقات ١/ ٥٥٦، وابن راهوية (٨٤١) و (٩٠٥)، وأحمد في المسند ٤١/ ٢٢٣ (٢٤٦٩٣)، وأبو داود (٣٧٣٥)، وابن حبّان في صحيحه ١٢/ ١٤٩ (٥٣٣٢)، وأبو يعلى في مسنده ٨/ ٨٢ (٤٦١٣)، وأبو الشيخ في أخلاق النبي ص ٢٢٧، وأبو نعيم في أخبار أصبهان ٢/ ١٢٥، والبيهقي في شعب الإيمان (٦٠٣٢) وغيرهم من طرق عن عبد العزيز بن محمد الدراوَرْديّ، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي اللَّه عنها. ورجال إسناده ثقات. عبد العزيز بن محمد الدراورديّ ثقة، وثّقه مالك ويحيى بن معين ويعقوب بن سفيان وغيرهم كما هو موضّح في تحرير التقريب (٤١١٩)، ولكن قال الإمام أحمد: "ما رواه إلا الدراوردي ولم يكن في أصل كتابه". (المعرفة والتاريخ ١/ ٤٢٨). ووقع عند أحمد وأبي داود وابن حبان: "بيوت السُّقيا" ونقل أبو داود عن شيخه فيه قتيبة بن سعيد قوله: "هي عينٌ بينهما وبين المدينة يومان". وقال البغويُّ في شرح السُّنة ١١/ ٣٨٤: "والسُّقيا من طرف الحَرَّة عند أرض بني فُلان" قلنا: والحَرَّة أرضٌ بضواحي المدينة ذات حجارة سود. وبنو فلان: هم بنو زُريق من الأنصار.