للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولهذا والله أعلمُ، قال بعضُ من تقدَّمَ: إنَّ من شرِبَ الخمرَ، ولم يتُبْ منها، لم يدخُلِ الجنّةَ، لهذا الحديثِ ومِثلِهِ.

وهذا مذهبٌ غيرُ مَرْضيٍّ عندَنا، إذا كان على القَطْع في إنفاذِ الوَعيدِ، ومحمَلُهُ عندَنا: أنَّهُ لا يدخُلُ الجنّةَ إلّا أن يُغفرَ لهُ إذا ماتَ غيرَ تائبٍ عنها كسائرِ الكَبائرِ.

وكذلكَ قولُهُ: "لم يَشْرَبها في الآخِرةِ" معناهُ عندَنا: إلّا أن يُغفرَ لهُ، فيدخُلَ الجنّةَ، ويَشْربَها، وهُو عندَنا في مَشيئَةِ الله، إن شاءَ غفرَ لهُ، وإن شاءَ عذَّبهُ بذنبِهِ، فإن عذَّبهُ بذَنبِهِ، ثُمَّ أدخَلهُ (١) الجنّةَ برَحمتِهِ، لم يُحرَمْها إن شاءَ الله تعالى، ومن غُفِرَ لهُ، فهُو أحْرَى أن لا يُحرَمَها، واللهُ أعلمُ.

وعلى هذا التَّأويلِ يكونُ معنى قولِهِ -صلى الله عليه وسلم-: "حُرِمَها في الآخِرةِ". أي: جَزاؤُهُ وعُقُوبتُهُ أن يُحرَمَها في الآخِرةِ، ولله أن يُجازيَ عبدَهُ المُذنِبَ على ذَنْبِهِ، ولهُ أن يعفُوَ عنهُ، فهُو أهلُ العفوِ، وأهلُ المَغْفِرةِ، لا يغفِرُ أن يُشرَكَ به، ويغفِرُ ما دُونَ ذلك لمن يشاءُ (٢)، وهذا الذي عليه عَقْدُ أهلِ السُّنَّةِ: أنَّ اللهَ يغفِرُ لمن يشاءُ، ما خَلا الشِّركَ، ولا يُنفِّذُ الوَعيدَ على أحَدٍ من أهلِ القِبْلةِ، وبالله التَّوفيقُ.

وجائزٌ أن يدخُلَ الجنّةَ إذا غفَرَ اللهُ لهُ، فلا يَشْربُ فيها خمرًا ولا يذكُرُها ولا يَراها، ولا تَشْتهيها نفسُهُ، والله أعلمُ.

وقد رُوِيَ عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ: من لبِسَ الحريرَ في الدُّنيا، ودخَلَ الجنّةَ، لم يلبَسْهُ هُو فيها من بين سائرِ أهْلِها. هذا، أو معناهُ (٣) رُوي عنهُ.


(١) في م: "دخل".
(٢) يشير إلى الآية (٤٨) من سورة النساء ونصها: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا}.
(٣) في م: "ومعناه".

<<  <  ج: ص:  >  >>