للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفي هذا الحديثِ عَلَمٌ من أعلام نبوتِه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه غَيبٌ كان بعدَه قد أخبرَ به، وهو لا يعلَمُ من الغيب إلا ما أظهَره اللهُ عليه وأوحَى به إليه، فقد افتُتِحت بعدَه الشامُ والعراقُ واليمنُ بعضُها، وقد خرَج الناسُ من المدينةِ إلى الشام وإلى اليمنِ وإلى العراق، وكان ما قالَه - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك لو صبَروا بالمدينةِ كان خيرًا لهم، قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يصبِرُ أحدٌ على لأْوائِها وشدَّتها إلا كنتُ له شهيدًا أو شفيعًا يومَ القيامة" (١).

وفي هذا الحديثِ: فضلُ المدينةِ على اليمن وعلى الشام وعلى العراق، وهذا أمرٌ مجتمَعٌ عليه، لا خلافَ بينَ العلماء فيه، وفي ذلك دليلٌ على أن بعضَ البقاع أفضلُ من بعض، ولا يوصَلُ إلى شيءٍ من ذلك إلا بتوقيفٍ من جهةِ الخبر، وأما القياسُ والنظرُ فلا مدخلَ له في شيءٍ من ذلك. وقد صحَّت الأخبارُ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بفضل المدينة، وأجمَع علماءُ الأمةِ على أنّ لها فضلًا معروفًا، لمسجدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وقبرِه فيها، وإنما اختلَفوا في الأفضل منها ومن مكةَ لا غيرُ، وقد بيّنا ذلك كلَّه في مواضعَ من هذا الكتاب، والحمدُ لله، واللهُ الموفِّق للصَّواب.

وأما قولُه: "يَبِسُّون". فمَن رواه: "يُبِسُّون" برفع الياء وكسرِ الباء، من: أبَسَّ يُبِسُّ، على الرباعيِّ، فقال: معناه: يُزيِّنون لهم البلدَ الذي جاؤوا منه ويُحبِّبونه إليهم، وَيدْعونهم إلى الرحيل إليه من المدينة. قالوا: والإبساسُ مأخوذٌ من إبساسِ الحَلُوبةِ عندَ حلابِها كي تَدُرَّ باللَّبن، وهو: أن تُجرِيَ يدَك على وجْهِها وصفحةِ عُنُقِها كأنك تُزيِّنُ ذلك عندَها وتُحسِّنُه لها، ومنه قولُ عِمرانَ بن حِطّان (٢):

والدهْرُ ذو دِرَّةٍ مِن غيرِ إبساسِ


(١) أخرجه مالك في الموطأ ٢/ ٤٦٢ (٢٥٩٢)، وقد سلف تخريجه والكلام عليه في باب قطن بن وهب بن عويمر في موضعه.
(٢) لم نقف عليه إلا عند ابن حبيب في تفسير غريب الموطأ ٢/ ٩٧ - ٩٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>