للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فجعَل أولَ الوقتِ وآخرَه وقتًا، ولم يقل: إنّ أولَه أفضلُ. والذي يَصحُّ عندي من تركِ مالكٍ الإعجابَ بهذا الحديث؛ لأنَّ فيه: "وما فاتَه من وقتِها أفضلُ من أهلِه ومالِه". أو: "أشدُّ عليه من ذَهابِ أهلِه ومالِه". وهذا اللفظُ قد ثبَت عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنه قال فيمن فاتتْه صلاةُ العصر فوتًا عندَ أهلِ العلم كليًّا حتى يخرجَ وقتُها كلُّه، ولا يُدرِكَ منها رَكْعةً قبلَ الغروب، وهذا المعنى يُعارضُ ظاهرَ قولِه في هذا الحديث: "وما فاتَتْه، ولما فاتَه من وقتِها". لأنَّ قوله: "فاتَه وقتُها". غيرُ قوله: "فاتَه من وقتِها". فكأنَّ مالكًا رحمه اللهُ لم يرَ أنّ بينَ (١) أول الوقتِ ووَسَطِه وآخرِه من الفَضْلِ ما يُشبهُ مُصيبةَ مَن فاتَه ذلك بمصيبةِ مَن ذهِب أهلُه ومالُه؛ لأنَّ ذلك إنما ورَد في ذَهابِ الوقتِ كلِّه. هذا عندي معنَى قول مالك، واللهُ أعلم (٢)؛ لأنَّ في هذا الحديثِ أنَّ فواتَ بعضِ الوقتِ كفواتِ الوقتِ كلِّه، وهذا لا يقولُه أحدٌ من العلماء، لا مَن فضَّلَ أولَ الوقتِ على آخرِه ولا مَن سوّى بينهما؛ لأنَّ فَوتَ بعض الوقتِ مباح، وفوتَ الوقتِ كلِّه لا يجوز، وفاعلُه عاصٍ لله إذا تعمَّد ذلك، وليسَ كذلك مَن صلّى في وَسَطِ الوَقْتِ وآخرِه، وإن كان مَن صَلّى في أولِ الوقتِ أفضلَ منه، وتَدبَّرْ هذا تجدْه كذلك إن شاء الله.

قال أبو عُمر: مَن فضَّلَ أولَ الوقتِ فله دَلائلُ وحُجَجٌ قد ذكَرناها في مواضعَ من هذا الكتاب، والحمدُ لله، وهذا الحديثُ من أحسنِها، والوجهُ فيه أنه


(١) قوله: "بين" لم يرد في الأصل.
(٢) وخالفه ابن رجب الحنبلي، فقال في فتح الباري له ٤/ ٢٩٧ بعد أن نقل قول المصنِّف هذا: "والذي يصحُّ عندي في ذلك: أنَّ مالكًا إنما أنكَرَ قولَ يحيى بن سعيد؛ لأنه إنما صحّ عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنه قال ذلك فيمن فاتَتْهُ العصرُ بالكُلِّية حتى غربت الشمسُ، فكأنّ مالكًا لم يَرَ أن بين أوّلِ الوقتِ ووسطِه وآخِرِه من الفَضْل ما يبلغ ذهابَ الأهل والمال، لأنّ ذلك إنما هو في ذهاب الوقتِ كلِّه".

<<  <  ج: ص:  >  >>