للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأما الجاه فمعناه ملك القلوب بطلب محل فيها ليتوصل به إلى الاستعانة في الأغراض والأعمال، وكل من لا يقدر على القيام بنفسه في جميع حاجته وافتقر إلى من يخدمه افتقر إلى جاه لا محالة في قلب خادمه، لأنه إن لم يكن له عنده محل وقدر لم يقم بخدمته، وقيام القدر والمحل في القلوب هو الجاه؛ وهذا له أول قريب ولكن يتمادى به إلى هاوية لا عمق لها، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، وإنما يحتاج إلى المحل في القلوب إما لجلب نفع أو لدفع ضر أو لخلاص من ظلم، فأما النفع فيغني عنه المال فإن من يخدم بأجرة يخدم وإن لم يكن عنده للمستأجر قدر، وإنما يحتاج إلى الجاه في قلب من يخدم بغير أجرة، وأما دفع الضر فيحتاج لأجله إلى الجاه في بلد لا يكمل فيه العدل، أو يكون بين جيران يظلمونه ولا يقدر على دفع شرهم إلا بمحل له في قلوبهم أو محل له عند السلطان، وقدر الحاجة فيه لا ينضبط لا سيما إذا انضم إليه الخوف وسوء الظن بالعواقب، والخائض في طلب الجاه سالك طريق الهلاك، بل حق الزاهد أن لا يسعى لطلب المحل في القلوب أصلاً فإن اشتغاله بالدين والعبادة يمهد له من المحل في القلوب ما يدفع به عنه الأذى ولو كان بين الكفار، فكيف بين المسلمين، فأما التوهمات والتقديرات التي تحوج إلى زيادة في الجاه على الحاصل بغير كسب فهي أوهام كاذبة، إذ من طلب الجاه أيضاً لم يخل عن أذى في بعض الأحوال، فعلاج ذلك بالاحتمال والصبر أولى من علاجه بطلب الجاه، فإذن طلب المحل في القلوب لا رخصة فيه أصلاً، واليسير منه داع إلى الكثير، وضراوته أشد من ضراوة الخمر فليحترز من قليله وكثيره،

والجدير بالذكر أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعلم أصحابه إيثار الخمول والبعد عن الجاه أو الشهرة لما في ذلك من حصول التواضع والإخلاص وصلاح القلب وتأمل في الأحاديث الآتية بعين الاعتبار:

(حديث سعد ابن أبي وقاص في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي.

[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:

(إن اللّه تعالى يحب العبد التقي) بمثناة فوقية من يترك المعاصي امتثالاً للمأمور به واجتناباً للمنهي عنه وهو [ص ٢٨٩] فعيل من الوقاية تاؤه مقلوبة عن واو وقيل هو المبالغ في تجنب الذنوب

<<  <  ج: ص:  >  >>