(يا أسير دنياه، يا عابداً لهواه، يا مَوْطِن الخطايا، ويا مِسْتَودِعَ الرزايا، اذكر ما قدّمت يداك، وكن خائفًا من سيدك ومولاك أن يطّلع على باطن زللك وجفاك، فيصدك عن بابه، ويبعدك عن جنابه، ويمنعك عن مرافقة أحبابه، فتقع في حضرة الخذلان، وتتقيد بشرك الخسران، وكلما رُمت التخلص من غيّك وعناك، صاح بك لسان الحال وناداك:
إليك عنا فما تحظى بنجوانا ... يا غادرًا قد لها عنا وقد خانا
أعرضت عنا ولم تعمل بطاعتنا ... وجئت تبغي الرضا والوصل قد بانا
بأي وجه نراك اليوم تقصدنا ... وطال ما كنت في الأيام تنسانا
يا ناقض العهد ما في وصلنا طمع ... إلا لمجتهد بالجدّ قد دانا
(أيها المقيم على الخطايا والعصيان، التارك لما أمرك الرحمن، المطيع للغويّ الفتان، إلى متى أنت على جرمك مصرّ، ومما يقرّبك إلى مولاك تفرّ؟ تطلب من الدنيا ما لا تدركه، وتتقي من الآخرة ما لا تملكه، لا أنت بما قسم الله من الرزق واثق، ولا أنت بما أمرك به لاحق.
يا أخي، الموعظة، والله لا تنفعك، والحوادث لا تردعك، لا الدهر يدعك، ولا داعي الموت يسمعك، كأنك يا مسكين لم تزل حيًا موجودًا، كأنك لا تعود نسيًا مفقودًا.
فاز، والله، المُخِفُّون من الأوزار، وَسَلَمَ المتقون من عذاب النار، وأنت مقيم على كسب الجرائم والأوزار.
(أخي الحبيب:
أقبل مولاك، وأعرض عن غيّك وهواك وواصل بقية العمر بوظائف الطاعات، واصبر على ترك عاجل الشهوات، فالفرار أيها المكلف كل الفرار من مواصلة الجرائم والأوزار، فالصبر على الطاعة في الدنيا أيسر من الصبر على النار.
(ولله درُ من قال:
أمولاي إني عبد ضعيف ... أتيتك أرغب بما لديك
أتيتك أشكو مصاب الذنوب ... وهل يشتكى الضر إلا إليك
فمنّ بعفوك يا سيّدي ... فليس اعتمادي إلا عليك
[*] (قال بعض الأخيار لولده لما حضرته الوفاة: يا بنيّ، اسمع وصيتي، واعمل ما أوصيك به. قال نعم يا أبت.
قال يا بنيّ: اجعل في عنقي حبلًا، وجرّني إلى محرابي، ومرّغ خدي على التراب، وقل: هذا جزاء من عصى مولاه، وآثر شهوته وهواه، ونام عن خدمة مولاه.
قال: فلما فعل ذلك به، رفع طرفه إلى السماء وقال: إلهي وسيدي ومولاي، قد آن الرحيل إليك، وأزف القدوم عليك، ولا عذر لي بين يديك، غير أنك الغفور وأنا العاصي، وأنت الرحيم وأنا الجاني، وأنت السيد وأنا العبد، ارحم خضوعي وذِلتي بين يديك، فإنه لا حول ولا قوة إلا بك.