وصاحب الحقيقة الدينية في طور آخر، فإنه في مشهد الأمر والنهي، والثواب والعقاب، والمولاة والمعاداة، والفرق بين ما يحبه الله ويرضاه، وبين ما يبغضه ويسخطه، فهو في مقام الفرق الثاني الذي لا يحصل للعبد درجة الإسلام ـ فضلا عن مقام الإحسان ـ إلا به.
فالمعرض عنه صفحاً لا نصيب له في الإسلام البتة، وهو كالذي كان الجنيد يوصي به أصحابه، فيقول:"عليكم بالفرق الثاني" وإنما سُمِّي ثانيا، لأن الفرق الأول: فرق بالطبع والنفس، وهذا فرق بالأمر.
والجمع أيضاً جمعان: جمع في فرق، وهو جمع أهل الاستقامة والتوحيد، وجمع بلا فرق، وهو جمع أهل الزندقة والإلحاد.
فالناس ثلاثة: صاحب فرق بلا جمع، فهو مذموم ناقص مخذول.
وصاحب جمع بلا فرق، وهو جمع أهل الزندقة، والإلحاد، فصاحبه ملحد زنديق.
وصاحب فرق وجمع، يشهد الفرق في الجمع، والكثرة في الوحدة، فهو المستقيم الموحد الفارق. وهذا صاحب الحقيقة الثالثة، الجامعة للحقيقتين الدينية والكونية. فشهود هذه الحقيقة الجامعة: هو عين الاستقامة.
وأما شهود الحقيقة الكونية، أو الأزلية، والفناء فيها: فأمر مشترك بين المؤمنين والكفار، فإن الكافر مقر بقدر الله وقضائه، وأزليته وأبديته، فإذا استغرق في هذا الشهود وفني به عن سواه: فقد شهد الحقيقة.
وأما قوله "لا كسبا" أي يتحقق عند مشاهدة الحقيقة: أن شهودها لم يكن بالكسب، لأن الكسب من أعمال النفس، فالحقيقة لا تبدو مع بقاء النفس، إذ الحقيقة فردانية أحدية نورانية، فلا بد من زوال ظلمة النفس، ورؤية كسبها، وإلا لم يشهد الحقيقة.
وأما "رفض الدعوى لا علماً" ف "الدعوى" نسبة الحال وغيره إلى نفسك وإنِّيَّتُك، فالاستقامة لا تصح إلا بتركها، سواء كانت حقاً أو باطلاً. فإن الدعوى الصادقة تطفئ نور المعرفة، فكيف بالكاذبة؟