وأما قوله "لا علماً" أي لا يكون الحامل له على ترك الدعوى مجرد علمه بفساد الدعوى، ومنافاتها للاستقامة. فإذا تركها يكون تركها لكون العلم قد نهى عنها. فيكون تاركاً لها ظاهراً لا حقيقة، أو تاركها لها لفظاً، قائماً بها حالاً، لأنه يرى أنه قد قام بحق العلم في تركها، فيتركها تواضعاً، بل يتركها حالاً وحقيقة كما يترك من أحب شيئاً تضره محبته حبه حالاً وحقيقة، وإذا تحقق أنه ليس له من الأمر شيء كما قال الله عز وجل لخير خلقه على الإطلاق:(لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ فَإِنّهُمْ ظَالِمُونَ)[آل عمران: ١٢٨] ترك الدعوى شهوداً وحقيقة وحالاً.
وأما "البقاء مع نور اليقظة" فهو الدوام في اليقظة، وأن لا يطفئ نورها بظلمة الغفلة بل يستديم يقظته، ويرى أنه في ذلك المُنشغلُ بالله المأخوذ عن نفسه، حفظاً من الله له، لا أن ذلك حصل بتحفظه واحترازه.
فهذه ثلاثة أمور: يقظة، واستدامة لها، وشهود أن ذلك بالحق سبحانه لا بك. فليس سبب بقائه في نور اليقظة بحفظه. بل بحفظ الله له.
وكأن الشيخ يشير إلى أن الاستقامة في هذه الدرجة لا تحصل بكسب، وإنما هو مجرد موهبة من الله. فإنه قال في الأولى "الاستقامة على الاجتهاد" وفي الثانية "استقامة الأحوال، لا كسباً ولا تحفظاً".
ومنازعته في ذلك متوجهة. وأن ذلك مما يمكن تحصيله كسباً يتعاطى الأسباب التي تهجم بصاحبها على هذا المقام.
نعم الذي ينفى في هذا المقام: شهود الكسب، وأن هذا حصل له بكسبه. فنفي الكسب شيء ونفي شهوده شيء آخر.
الدرجة الثالثة (استقامة بترك رؤية الاستقامة):
استقامة بترك رؤية الاستقامة، وبالغيبة عن تطلب الاستقامة بشهود إقامة وتقويمه الحق.
هذه الاستقامة معناها: الذهول بمشهوده عن شهوده، فيغيب بالمشهود المقصود سبحانه عن رؤية استقامته في طلبه، فإن رؤية الاستقامة تحجبه عن حقيقة الشهود.
وأما "الغيبة عن تطلب الاستقامة" فهو غيبته عن طلبها بشهود إقامة الحق للعبد، وتقويمه إياه، فإنه إذا شهد أن الله هو المقيم له والمقوم، وأن استقامته وقيامه بالله، لا بنفسه ولا بطلبه: غاب بهذا الشهود عن استشعار طلبه لها.