للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والواقع أن المنتسبين إلى الإسلام -عدا أهل الوسطية- على طرفي نقيض:

- فئة غالية تريد أن تجعل من كل ما ورد في نصوص الشريعة (١)

تشريعاً ملزماً لكل الناس في كل الأزمان وفي كل الأقطار، وفي كل الأحوال (٢)، بفهمها الخاص؛ فسوت بين شرائع الإسلام، فأصبح منهم من يكفر بكل ذنب ولو كان دون الشرك.

- وفئة أخرى تقابل سابقتها، تريد أن تعزل الدين عن شئون الحياة العلمية كلها (٣)، فالعادات والمعاملات وشئون الاقتصاد والإدارة والحرب ونحوها، يجب أن تترك للناس، ولا تدخل نصوص الشرع فيها آمرة، ولا ناهية، ولا موجبة ولا هادية؛ وحجتهم في ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أنتم أعلم بأمر دنياكم)) (٤)؛ وليس لهم فيه حجة (٥).

إن هذه القضية تعتبر من أهم القضايا التي يقع فيها الخلط وسوء الفهم؛ فليست الشرائع على درجة واحدة، وكذلك المحظورات؛ فالشرائع من شعب الإيمان، والمحظورات


(١) القرآن الكريم كل نصوصه قطعية الثبوت ليس ثمة أدنى شك في ذلك. وبعض نصوصه ظنية الدلالة ولهذا تعددت الأحكام التي مناطها على آية واحدة. وكذلك الحديث فيما يخص القطعي الثبوت منه والظني الثبوت. وعند تعارض نصان: يقدم نص القرآن أولا، ثم ما كان من السنة قطعي الثبوت، ثم ما كان ظني الثبوت.

قال ابن القيم في كتابه علام الموقعين (٣/ ١١): الأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حال واحدة هو عليها لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب تحريم المحرمات والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه. النوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانا ومكانا وحالا، كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها، فإن الشارع ينوع فيها بحسب المصلحة.
(٢) مع العلم أن فيها ما صدر عن الجبلة، وما صدر عن العادة، وما صدر عن تجربة البيئة وخبرتها، وما جاء بطريق الاتفاق لا القصد، وخصوصا بالنظر إلى أفعاله - صلى الله عليه وسلم -. ولهذا رأى المحققون من علماء الأصول أنها لا تدل على أكثر من الإباحة أو المشروعية، إلا إذا ظهر فيها قصد القربة إلى الله.
ينظر: السنة وكيفية الاستفادة منها http://www.al-shia.org/
(٣) فاكتفوا بمجرد التصديق، وقالوا لا يضر ذنب مع التصديق، وفصلوا الحياة عن شرائع الدين.
(٤) رواه مسلم في صحيحه في قصة تأبير النخل أو تلقيحه، كتاب الفضائل، باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً، دون ما ذكره - صلى الله عليه وسلم - من معايش الدنيا، على سبيل الرأي برقم (٢٣٦٣).
(٥) الحديث يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبدى لهم رأيا ظنياً في أمر من أمور المعيشة، ولم يكن له به خبرة، فقد كان من أهل مكة الذين لم يمارسوا الزرع والغرس؛ لأنهم يسكنون بوادي غير ذي زرع، وظنه أصحابه دينا يتبع، وشرعا يطاع، فكان ما كان من عدم بلوغ الثمر غايته، فبين لهم - صلى الله عليه وسلم - أن ما قاله لهم، لم يكن إلا ظنا في شأن غير ديني، وإنما هو أمر فني بحت، هم أخبر به وأدرى، ولهذا فال: (أنتم أعلم بأمر دنياكم)، قال الإمام النووي مبوباً لهذا الحديث، باب: (وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره - صلى الله عليه وسلم - من معايش الدنيا على سبيل الرأي).
ينظر: مسند الإمام أحمد التعليق الشيخ أحمد شاكر على حديث رقم (١٣٩٥)، والمسند الصحيح للإمام مسلم، باب رقم (٣٨)، (ص ١٨٣٥) ت. فؤاد عبد الباقي.

<<  <   >  >>