للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[المطلب الثاني: الانحراف المؤدي إلى الإفراط في توحيد الإيمان بالقضاء والقدر.]

ظَهَر قول مضاد معاكس لقول القدرية، وهو القول بالجبر، والذي يثبت أصحابه القدر بمراتبه، لكنهم سلبوا العبد قدرته واختياره، وقالوا: إنه مجبور على أفعاله، وأنه لا يقدر منها على شيء؛ لأنها مكتوبة عليه، فلا أثر لإرادته، ولا لقدرته (١)، بل هو كالريشة في مهب الريح، فليس له فعل حقيقة، وليس له تصرف حقيقة، ولا كسب حقيقة، وإنما هذه أمور مجازية، وفعل العبد هو في الحقيقة فعل الله - عز وجل -، لكن أضيف للعبد اقتراناً، ولم يضف إليه حقيقة، وأخرج بعضهم لفظ الكسب، وعللوا به (٢).

وقد سبقهم إبليس فاحتج على الله بالقدر: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩)} الحجر: ٣٩، فنسب الغواية إلى الله تعالى، وأخذ أهل البدع عنه {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} الزخرف: ٢٠، {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} النساء: ١٥٥، كما أن هؤلاء الجبرية يسمون بالقدرية المشركية؛ لأنهم شابهوا المشركين في قولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} الأنعام: ١٤٨، فكانت هذه الأقوال السابقة بذرة لزرع القول بالجبر والخوض في القضاء والقدر على حسب الأهواء والآراء.


(١) وهذا القول خلاف ما يجده العقلاء في أنفسهم؛ لأن كل من يرجع إلى نفسه يفرق بين ما يرد عليه من أمر ضروري لا اختيار له فيه وبين ما يختاره لنفسه ويضيفه لها، فالعاقل يفرق بين حركة ضرورية كحركة المرتعش وحركة المختار، ومن أنكر هذه التفرقة لا يعد من العقلاء، وله ما ورد في القرآن كقول تعالى "يعملون""يكسبون""يفعلون" حجة، وقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨)} المدثر: ٣٨، ولو لم يكن للعبد اختيار كان الخطاب معه محالاً والثواب والعقاب عنه ساقطين كالجماد.
ينظر: هامش الملل والنحل، تحقيق محمد سيد كيلاني (١/ ٩٨ - ٩٩).
(٢) ينظر: أصول الدين للبغدادي (ص ٢٤) وما بعدها، مجموع الفتاوى (٨/ ١٠٣) وما بعدها، ومدارج السالكين (١/ ١٠٣) وما بعدها، شفاء العليل (ص ٩١) وما بعدها، شرح الطحاوية لآل الشيخ (٢/ ٢٧٠ - ٢٧١).

<<  <   >  >>