للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الآية الثالثة:

قوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧)} القصص: ٧٧، في هذه الآية الكريمة ردٌ على من وقع في بدعتي الإفراط والتفريط:

- أولاً: بيان وجه رد الآية على بدعة التفريط.

في هذه الآية رد على من فرطوا في توحيد الألوهية من المرجئة والملاحدة وغيرهم، الذين توهموا (١) وجود إنسان لا يعبد شيئاً، في قوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ}.

فمن أعرض عن الطاعة بتركها مطلقاً لم يكن قد حقق أصل التوحيد فلا يكون مسلماً، ويكون بتوليه الكلي عن الطاعة كافراً - عياذاً بالله- كما قال تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧)} النور: ٤٧، قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: " (التولي) هو التولي عن الطاعة ... فنفى الإيمان عمن تولى عن العمل وإن كان قد أتى بالقول" (٢)؛ لأن "جنس الأعمال من لوازم إيمان القلب" (٣)، وإيمان القلب لا يُتصور وجوده دون أن تظهر آثاره على الجوارح (٤)، وهذا هو المقرر عند سلف الأمة وأئمتها.

كما أن فيها أيضاً رداً على الذين أغرتهم الماديات عن العمل للآخرة ففرطوا في توحيد الألوهية، نجد هذا في قوله تعالى: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}، قال ابن عباس - رضي الله عنه -: لا تنس حظك من الدنيا أن تعمل فيها لآخرتك، وقيل: لا تنس ما أنعم الله عليك أن تشكره عليه بالطاعة، ولا تترك أن تعمل في الدنيا للآخرة حتى تنجو من العذاب؛ لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا أن يعمل للآخرة (٥)، وقد توعد الله من همه دنياه فقط بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (٧) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٨)} يونس: ٧ - ٨.


(١) هذا التوهم إما أن يكون اعتقاداً كما هو صنيع الملاحدة، وإما أن يكون لازما كما هو صنيع المرجئة وأهل الشهوات والمنافقون.
(٢) مجموع الفتاوى (٧/ ١٤٢).
(٣) الإيمان الأوسط (شرح حديث جبريل) لابن تيمية (ص ٥٦٧).
(٤) ينظر: مجموع الفتاوى (٧/ ١٩٨).
(٥) ينظر: النكت والعيون، تفسير الماوردي (٤/ ٢٦٧)، والبحر المحيط في التفسير، لأبي حيان الأندلسي (٨/ ٣٢٥)، والجواهر الحسان في تفسير القرآن، للثعالبي (٤/ ٢٨٣).

<<  <   >  >>