للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

المطلب الثاني: العلاقة بين الغلو والجفاء قديماً وحديثاً.

الغلو (١) في الدين آفة قديمة ابتليت بها الأمم من قبلنا، كما بليت بها هذه الأمة؛ لذا فإن مشكلة الغلو في الدين قديمة ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ، ممتدةٌ حبالها حتى وقتنا الحاضر، ولعل هذا المطلب يُبين مدى العلاقة بين الغلو في القديم والحديث، فيما يلي:

١ - تشابه فِرق الغلاة والجفاة -قديماً وحديثاً- في كثير من الصفات والآراء، خاصة التي أخبر عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - (٢)؛ فالدراس لمذهب الخوارج -مثلاً- يجد تشابهاً مع آراء الغلاة المعاصرين: كتكفير العصاة أصحاب الكبائر، والقول بأن ديار المسلمين ديار كفر تستباح فيها الدماء، إلى غير ذلك من الآراء والمعتقدات التي يتشابهون فيها (٣)، كذلك الدارس لمذهب المرجئة -مثلاً- يجد تشابهاً مع آراء الجفاة المعاصرين: أمثال طوائف الحلولية، وغلاة الصوفية، والفرق الباطنية، وعباد الموتى، ودعاة الشرك بكل ضروبه، وسائر الزنادقة والمنافقين الذين ظهر لهم في عصرنا أسماء وأشكال جديدة، كالاشتراكيين والبعثيين والقوميين والعلمانيين وسائر المنضمين أو المؤمنين بالأحزاب المرتدة والنظريات الكفرية، وكذلك دعاة الإباحية والمطلقة المنتسبين إلى النظريات الاجتماعية والأدبية والنفسية والتربوية وأمثالها (٤)؛ وهذا مما يؤكد الترابط والامتداد الزمني والتاريخي لهذه الفرق.

٢ - أن كثيراً من أفكار الفرق الغالية أو الجافية ومناهجها كانت ردة فعل أو انعكاس مباشر لأفكار ومناهج فرق سبقتها أو عاصرتها، فمثلاً: مبدأ الجفاء عند القدرية الذي أبطلوا فيه ما قضاه الله وقدره، نتج عنه غلوٌ مضاد تمثل في الإثبات المغالي


(١) الفهم الزائد عن الواجب يعتبر غلواً وإفراطاً، وعكسه التفريط فيه يعتبر غلواً عن الواجب.
(٢) أخرج البخاري (٦٥٣٢) ومسلم (١٠٦٤) عن أبي سلمة وعطاء بن يسار أنهما أتيا أبا سعيد الخدري فسألاه عن الحرورية هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرها؟ , قال لا أدري ما الحرورية سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يخرج في هذه الأمة -"ولم يقل منها"- قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم يقرءون القرآن لا يجاوز حلوقهم أو حناجرهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية فينظر الرامي إلى سهمه إلى نصله إلى رصافه فيتمارى في الفوقة هل علق بها من الدم شيء)، وغير ذلك من الأحاديث.
(٣) ينظر: مشكلة الغلو في الدين (١/ ٣٩ - ٤٣).
(٤) ينظر: ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي (١/ ٨٢).

<<  <   >  >>