للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

- ثانياً: بيان وجه رد الآية على بدعة الإفراط.

قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فيه رد على الوعيدية القائلين بأن من مات على كبيرة يخلد في النار؛ وذلك لأن المراد بغفران ما دون ذلك أي: غفران الكبائر قبل التوبة؛ لأنه تعالى علَّق هذا الغفران بالمشيئة، وغفران الكبائر والصغائر بعد التوبة مقطوع به غير معلق بالمشيئة (١)، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣)} الزمر: ٥٣، وقال: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (٣١)} النساء: ٣١.

- ثالثاً: المأخذ الذي انطلقت منه هاتان الطائفتان.

المأخذ الذي انطلقت منه هاتان الطائفتان هو اعتقادهم: أنه لا يجتمع في العبد إيمان وكفر، ومنشأ الغلط هذا انبنى عليه عند أهل الأهواء والبدع: مسألة أصحاب الكبائر وتكفيرهم الدائر بين النفي والإثبات.

فمنهم من رأى أنهم مؤمنون لا تأثير للذنوب والسيئات في نقصان إيمانهم، مستدلين بنصوص الوعد، فأخرجوا أعمال القلوب من مسمى الإيمان، وكان هذا من أعظم أسباب اضطرابهم وتناقضهم؛ ولذلك ظنوا أن سب الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا ينافي اعتقاد صدقه فيجوز اجتماع ذلك مع الإيمان، ولكن لو أدخلوا الأعمال في مسمى الإيمان لعلموا أنه يستحيل أن يسب المرء من أحبه وخضع واستسلم؛ لأن المحبة والاستسلام والانقياد إكرام وإعزاز، والسب والشتم إهانة وإذلال فلا يجتمعان (٢).

ومنهم من غلا حتى جعل مرتكب الكبيرة كافراً لا يخرج من النار إذا لم يتب، وأن سيئاته مُزيلة للإيمان بالكلية، وأنها لا تقبل فيه الشفاعة، مستدلين بنصوص الوعيد، وقالوا: إن الله توعَّد العاصين بالنار والعذاب، وهو لا يخلف الميعاد (٣).


(١) ينظر: المحرر الوجيز (٤/ ١٤٣ - ١٤٤)، ومجموع الفتاوى (٨/ ٢٧٣).
(٢) ينظر: الصارم المسلول (ص ٥٢٣) وما بعدها.
(٣) إخلاف الوعيد من فعل الكرام وهى صفة مدح، بخلاف خلف الوعد فإنها صفة ذم، والله عز وجل يتنزه عنها، بخلاف الوعيد فإنه يعتبر من باب التفضل والتكرم وإسقاط حق نفسه، وهذا هو مذهب السلف أهل السنة والجماعة. وما ذهب إليه المعتزلة من منع إخلاف الوعيد وزعمهم أنه من الكذب فهو إلى سوء الظن أقرب، وهو تحكم على الله عز وجل، والله تعالى يفعل ما يشاء.
ينظر: فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام وبيان موقف الإسلام منها (٣/ ١١٩١).

<<  <   >  >>