للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

- ثانياً: اتباع الهوى:

اتباع الهوى هو: انسياق النفس لما تهواه وتريده، دون اعتبار للضوابط الشرعية (١)، وقد ذم الله - عز وجل - في كتابه الهوى وبين أنه مصدر كل ضلال، كذلك رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومضى على هذا سلف الأمة وعلماؤها.

فالأصل في الابتداع إذن هو اتباع الهوى، وكل من عمد إلى خلاف الشرع فهو متبع للهوى ولا بد؛ {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} القصص: ٥٠، ويشهد لكون الابتداع اتباعا للهوى قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، وهي الجماعة، وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكَلَب (٢) بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله)) (٣).

بل إن كل من استحسن عملاً بلا علم ولا برهان، فقد عبد هواه واتبعه، وكلّ من اتّبع هواه فقد اتّخذ هواه معبوده، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في الكلام على أولئك الذين يتبعون أهواءهم دون أمر الله وشرعه: " ... فهؤلاء لا يفعلون ولا يأمرون إلا بما يحبونه بهواهم، ولا يتركون وينهون إلا عما يكرهونه بهواهم، وهؤلاء شر الخلق، قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (٤٣)} الفرقان: ٤٣" (٤)، كما أن كل من عمل عملاً صالحاً لأجل رياسة أو مال أو شرف أو قربة من شيخ، أو سلطان ونحوه فقد اتبع هواه وعبده (٥).

ومن هنا فإن الهوى قد يقود صاحبه إلى التفريط في توحيد الألوهية والعياذ بالله، وقد يكون كبيراً، كما قد يكون صغيراً بحسب اعتقاد الفاعل وفعله (٦)، وكل من خالف الحق -


(١) ينظر: لسان العرب (١٥/ ٣٧٢)، والمفردات للراغب (ص ٥٤٨)، والموافقات للشاطبي (٤/ ١٨٧)، وجهود شيخ الإسلام ابن تيمية في توضيح توحيد العبادة (٢/ ١٢٥٣).
(٢) الكَلَب -بالتحريك- هو داء يعرض للإنسان من عض الكَلْب الكَلِب، فيصيبه شبه الجنون، وتعرض له أعراض رديئة، ولا يشرب الماء حتى يموت عطشًا. هكذا ذكر صاحب "النهاية" (٤/ ١٩٥)، وغيره.
(٣) أخرجه أحمد في مسنده (٤/ ١٠٢) برقم (١٦٩٣٧)، وأبو داود في كتاب السنة، باب شرح السنة، برقم (٤٥٩٧)، وصححه الألباني في تحقيقه للسنة لابن أبي عاصم (٧). والحاكم في "مستدركه" في: كتاب العلم، وقال بعد سياقه وسياق حديث أبي هريرة: "هذه أسانيد تقام بها الحجة في تصحيح هذا الحديث"، ووافقه الذهبي (١/ ١٢٨).
(٤) مجموع الفتاوى (١٠/ ٤٧٩ - ٤٨٠).
(٥) ينظر: مجموع الفتاوى (١٣/ ٦٤ - ٦٨)، (١٠/ ٥٩٢، ٦٠٩ - ٦١١).
(٦) مما يلاحظ أن اتباع الهوى ليس على درجة واحدة بالنسبة للمكلفين، وإنما هو درجات منها:
الشرك بالله بالخروج عن طاعته، ومساواة محبة الأنداد بمحبة الله، ومنها ما هو أقل من ذلك كتقليد الآباء والمشايخ وتقديم ما يرونه ويقررونه على اتباع الحق تقليداً وتعصباً للآباء والمشايخ، ومنها من هو دون ذلك أيضاً من ابتاع الهوى في سائر ما تهواه النفس وتقديم طاعتها على طاعة الله ورسوله، فيؤثر ما تهواه نفسه وتطلبه شهوته على ذلك.
ينظر: جهود شيخ الإسلام في توضيح توحيد العبادة (١/ ٣٧٢).

<<  <   >  >>