للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهؤلاء في الحقيقة يزعمون: أن الله هو الفاعل الحقيقي لأفعالهم، وهذا كلام ظاهر البطلان، بخلاف ما عليه أهل السنة، الذين يقولون: إن الله هو الخالق، والعبد هو الفاعل، ولذا ترتب على فعله الثواب، والعقاب.

ولا تزال هذه الأقوال تقال على ألسنة طوائف من أهل الأهواء والبدع كالمرجئة-الأشاعرة والجهمية الكلابية-، والجبرية، وغلاة الصوفية (١)، ومن يعتقدون تأثير الكواكب، وغيرهم، وكما أن بدعة القدر ظهرت قديماً، فهي وما تزال موجودة إلى الآن (٢).

ومن أجل هذا فإن الانحراف المؤدي إلى الإفراط في الإيمان بالقضاء والقدر، يأتي من طريقين، هما:

- أولاً: إرادة تنزيه الله - سبحانه وتعالى - عن العجز الذي رماه به القدرية:

لما ظهر من ينكر علم الله بالجزئيات ومن ينكر مشيئة الله وخلقه، ظهر في المقابل من يثبت لله - عز وجل - خلق المخلوقات وأمر المأمورات لا لعلة ولا لحكمة؛ بل إنه تعالى فعل ذلك لمحض المشيئة والإرادة، وتسويتهم بين محبة الله ومشيئته، ونفيهم تعليل أفعال الله، أو أن تكون له فيها حكمة تعود إليه، نتج عن هذا أن جوزوا عقلاً كل ممكن عليه سبحانه، حتى تعذيب أوليائه وتنعيم أعدائه، وأن يأمر بما لا منفعة فيه، بل ما يكون ضرراً محضاً؛ لأنه تصرف في ملكه، ولا ملك إلا ملكه فيكون الظلم ممتنعاً عنه، وكل ما شاءه الله حسن؛ لأنه يحبه (٣).

وهذا النفي لحكمة الله - سبحانه وتعالى - دفعهم إلى سلب العباد إرادتهم ومشيئتهم، وإلى القول بأن العبد مجبور على فعله، ولا قدرة له ولا اختيار، في مقابل قدرة الله واختياره، وأن الله وحده هو الخالق لأفعال العباد وأعمالهم، إنما تنسب إليهم مجازاً (٤) كما تنسب إلى الجمادات، كما


(١) "ممن يزعمون الترقي في مقام الشهود للحقيقة الكونية، والربوبية الشاملة، فيرون كل ما يصدر من العبد من ظلم، وكفر، وفسوق هو طاعة محضة؛ لأنها تجري وفق ما قضاه الله، وقدره، وكل ما قضاه وقدره فهو محبوب لديه، مرضي عنده، فإذا كان قد خالف أمر الشارع بارتكابه هذه المحظورات؛ فقد أطاع إرادة الله، ونفذ مشيئته، فمن أطاع الله في قضائه وقدره هو كمن أطاعه في أمره ونهيه كلاهما قد قام بحق العبودية لله". شرح نونية ابن القيم للهراس (١/ ٣٧٢).
(٢) ينظر: تناقض أهل الأهواء والبدع (١/ ٣٥٩ - ٣٦٠).
(٣) ينظر: مجموع الفتاوى (٨/ ٥٠٦)، درء التعارض (٨/ ٢٢).
(٤) لا يمكن تكليف من لا ينسب إليه الفعل نسبة حقيقية .. فلا يمكن القول بما تقول به القدرية من نفي خلق الله لأفعال العباد، إلا مع القدح في توحيد الله تعالى، وإثبات مخلوق خارج عن مشيئة الله وقدرته، فيلزم وجود مخلوق لم يخلقه الله، كما لا يمكن القول بما تقول به الجبرية من نفي نسبة أفعال العباد إليهم إلا مع نفي التكليف وإبطال الحكمة من إنزال الكتب وإرسال الرسل والثواب والعقاب. ينظر: منهاج السنة (٣/ ٢٣٩ - ٢٤٠)، الخلاف العقدي في باب القدر (ص ٤٦).

<<  <   >  >>