للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بلا أمر ولا نهي يبتليهم به، وهذا الإنكار من الرب شاهد لمعنى قوله: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، وذكر الجن والإنس وهما المذكوران دون سواهما، يدل على عبودية مرادة منهما خاصة دون سواهما وهي عبودية الطاعة والامتثال للأمر الشرعي والابتلاء فيها (١).

كما أن فيها رداً على الملاحدة الذين نفوا الحقيقة من وجود الإنسان، فبينت الآية الكريمة حقيقة الوجود وهي عبادة الله - عز وجل -.

- ثالثاً: المأخذ الذي انطلقت منه هاتان الطائفتان.

المأخذ الذي انطلقت منه هاتان الطائفتان في باب القدر هو: التسوية بين الإرادة والمشيئة، وبين المحبة والرضا: فاعتقاد أن محبة الله - عز وجل - ورضاه، ومشيئته وإرادته متحدان أو متلازمان (٢)، هو الأصل المشترك بين القدرية والمعتزلة والجبرية والجهمية والأشعرية (٣)، الذي انطلقت منه هاتان الطائفتان إلى الغلو أو الجفاء في الإيمان بالقضاء والقدر.

- رابعاً: أثر اجتماع الرد على البدع المتقابلة في موطن واحد.

أتت هذه الآية الكريمة للدلالة على أن المذهب الحق هو ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة، فهم وسط في باب القدر بين القدرية الذين ضلوا بالتفريط، حيث زعموا أن العبد يخلق عمل نفسه استقلالاً عن غير تأثير لقدرة الله فيه، وبين الجبرية الذين ضلوا بالإفراط، حيث زعموا أن العبد لا عمل له أصلا حتى يؤاخذ به.

لذا فهذه الآية شاهدة على طريقة أهل السنة ومنهجهم العام في باب القدر؛ فهم لم يفَّرِطوا ولم يفْرِطوا فأثبتوا للعبد أفعالاً اختيارية، ومن الضروري عند جميع العقلاء أن الحركة الارتعاشية ليست كالحركة الاختيارية، وأثبتوا أن الله خالق كل شيء، فهو خالق العبد وخالق قدرته وإرادته، وتأثير قدرة العبد لا يكون إلا بمشيئة الله تعالى، فالعبد وجميع أفعاله بمشيئة الله تعالى، مع أن العبد يفعل اختياراً بالقدرة والإرادة اللتين خلقهما الله فيه فعلا اختياريا يثاب عليه ويعاقب (٤).


(١) ينظر: دراسة لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)}، (ص ٢٥).
(٢) ينظر: شرح الطحاوية (١/ ٣٢٤)، ومنهج الإمام ابن أبي العز الحنفي (ص ٣٢٦).
(٣) ينظر: المعني في أبواب العدل والتوحيد والإنصاف، للباقلاني (٤٤ - ٤٥)، والإرشاد للجويني (ص ٢١١).
(٤) ينظر: دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب.

<<  <   >  >>