للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولكن الأمر لم يقف عند حد ردة الفعل -التي وقف منها السلف موقفاً قوياً لعلمهم بخطورتها (١) -، بل تجاوزه على يد أهل الكلام الذين قعدوا لهذه البدعة، وأقاموا عليها مذهباً كاملاً في باب الإيمان ونواقضه.

- ثانياً: الأثر المنطقي، والتزامهم لوازمه الباطلة:

كان جهل المرجئة بالشرع وإعراضهم عنه (٢) سبباً في تعلقهم -لدفع خصومهم بأوهام ذاتية أو تصورات غريبة- بقواعد المنطق-بعد أن كان موضوعها الأصلي نفي الصفات-، فجعلوها علماً معياريا يحكم في القضايا النظرية الخلافية عامة، ومنها قضية الإيمان، وليس للنصوص فيها - إن وجدت - إلا مكانة ثانوية، فالأساس الذي انطلق منه أصل الإيمان عند المرجئة وغيرهم ممن ضل في باب الإيمان، هو المنطق، حيث أثبتوا ما أسموه (الماهية (٣))، ذلك أن الحد المنطقي يشترط فيه وجود حقيقة وماهية يستوي فيها جميع أفراد المعرَّف، مما يعني القضاء بامتناع تفاضل أفراد النوع في الحقيقة والماهية.

فوضعوا سؤالاً هو: ما الإيمان؟ وأخذوا يبحثون في جوابه على الأسلوب المنطقي الذي يقصد من التعريف "تصور الماهية" (٤) فضلوا؛ ذلك أن البحث في ماهية الإيمان المجردة -


(١) ومن هذه المواقف: تأليفهم للمصنفات الكبرى في شعب الإيمان وأبوابه، كما قاموا ببيان فساد مذهبهم، والتحذير منهم، ومن مسالك علماء السلف مع مبتدعة المرجئة الحوار معهم، وبيان تهافت فكرتهم وبطلانها، كان السلف لا يحضرون جنائزهم، ولا يصلون عليهم إذا ماتوا.
ينظر: العقيدة الإسلامية وجهود علماء السلف في تقريرها والدفاع عنها حتى نهاية العصر الأموي، لعطاء الله المعايطة (ص ٦٠١).
(٢) بسبب جعلهم النصوص الشرعية ظنية الثبوت كالآحاد، أو ظنية في الدلالة كالمتواتر وعند تعارض العقل والنقل، فالعقل مقدم عليه، والنقل يؤَول ليوافق العقل.
(٣) وهذا القول نشأ حينما امتزج علم المنطق بعلم الكلام. وماهية الشيء هي حقيقته وهي أصله وأساسه وجوهره، وما به قوامه وما يقوم عليه وجوده، فالوجود بلا ماهية عدم ووجود هش لا أساس له، والماهية إما بسيطة، وإما مركبة، وذلك لأن الأشياء إما عقلية لا يتمايز أجزاؤها في الخارج أو خارجية يتمايز أجزاؤها في الخارج، فالماهيات العقلية بسيطة والماهيات الخارجية مركبة.

ومصطلح الماهية يورده الفلاسفة والمتكلمون ونادراً ما يستعمله علماء المسلمين.
ينظر: معجم ألفاظ العقيدة، لعامر عبد الله فالح (ص ٣٧٣).
(٤) الغرض من مبحث الحدود في علم المنطق: هو إثبات الماهية من حيث هي هي، وإثبات ذوات مجردة، وإلا لانتقص الحد، وامتنع حصول التصور لتمام الماهية.
ينظر: آداب البحث والمناظرة للشنقيطي (ص ٤٨).

<<  <   >  >>