للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بزعمهم- والتفريق بين لوازمها الذاتية والعرضية، أدى بهم إلى الحكم بأن العمل ليس داخلاً في الماهية ولا من اللوازم العرضية، وإنما هو من قبيل "العرض العام" (١).

لأنهم أرادوا استخراج القدر الكلي المشترك بين درجات الإيمان، ليتصوروا ماهية الإيمان وحقيقته بمعزل عن صفاته العرضية (٢)، فكان طبيعياً ألا يدخلوا الأعمال في الإيمان؛ لأنها مفقودة بكاملها عند من يصدق بقلبه ولم يقر بلسانه -بدلالة اللغة-، أو من أقر بالإيمان ولم يعمل شيئاً -بدلالة حديث الجارية (٣) بزعمهم-، وبذلك جاءت تعاريفهم للإيمان خالية من ذكر عمل الجوارح بالمرة، بل محصورة في عمل قلبي واحد وهو التصديق أو الاعتقاد (٤).

ويمكن الإشارة باختصار إلى أخطر النتائج التي ترتبت على ذلك، وهي:

- انحصار مفهوم العبادة في القلب: وهذا التصور الضيق للعبادة أدى إلى إهمال أركان الإسلام والإيمان، فأصبح الإنسان بوسعه أن يتصور مؤمناً لا يؤدي من أعمال الإسلام شيئاً، وهذا ما شجع على التفلت من التكاليف الشرعية؛ لأن النفس البشرية بطبيعتها ترغب الدعة وترك العمل (٥).

- إهمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: بناءً على انحصار مفهوم العبادة في القلب، أصبحت الشعائر التعبدية (٦) تؤدى كعادات موروثة ليس لها أثر في الحياة،


(١) العرض العام عندهم هو: الكلي الخارج عن الماهية، الذي يقال عليها وعلى غيرها فهو أعم منها، ومن هنا كان هو الكلي الوحيد من الكليات الخمس الذي لا يصح أن يدخل في التعريفات، وإنما ذكروه معها على سبيل التمييز.
ينظر: تسهيل المنطق، لعبد الكريم مراد (ص ٢٤)، ظاهرة الإرجاء (ص ٤٥٢).
(٢) جاء هؤلاء المرجئة فاثبتوا تلك الماهيات المطلقة التي اختلقها أفلاطون وأرسطو، وطبقوا كل نتائجها على موضوع "الإيمان"، فكانت النتيجة القاصمة وهي أن أعمال الإسلام كله ابتداء من قول لا إله إلا الله وانتهاء بالنوافل، ما هي إلا عرض للإيمان وليست من ماهيته، وأنه لم يأت بشيء من ذلك قط يدخل الجنة بسلام -ولو بعد حين-! ! ، مع العلم أنه ليس كل أحد من المرجئة أثبت وجود الماهية صراحة، ولكن من لم ينص على ذلك بنى كلامه على أساس ثبوتها فالنتيجة واحدة. ينظر: ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي (٢/ ٤٦٩).
(٣) رواه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة، برقم (٥٣٧).
(٤) ينظر: مجموع الفتاوى (٧/ ٥١٣)، والإيمان لابن تيمية (١٨٤ - ١٨٥) (٣٨٧ - ٣٩١)، وظاهر الإرجاء (٢/ ٤٧٤).
(٥) ينظر: مجموع الفتاوى (٧/ ٦٢١) (١٤/ ١٢٠)، الصلاة وحكم تاركها لابن القيم (ص ٥٤)، الموافقات للشاطبي (١/ ٣٦٧)، حقيقة الليبرالية وموقف الإسلام منها (ص ٣٤٠).
(٦) تم عزل العبادة بمفهومها الشامل عن بقية الإسلام، حتى كأنه منحصر في الشعائر التعبدية دون بقية أجزاء العبادة كالجهاد والدعوة والبر والصلة، وطلب العلم، والأمر بالمعروف والنهي عن النكر، والحكم بما أنزل الله، والصدق، والأمانة، والوفاء بالعقود ونحوها من العبادات التي تجعل الدنيا مزرعة للآخرة تُعمر بكل أنواع الإعمار لتكون موافقة لمرضاة الله تعالى، بل نشأت دعوة عن الإعراض عما سوى الشعائر التعبدية؛ لأنها تشغل عن عبادة الله تعالى، فتركوا الجهاد وإنكار المنكر ورد الطغيان والاستعمار ومقاومة الظلم وغيرها. ينظر: الليبرالية في العالم الإسلامي (ص ٣٤١).

<<  <   >  >>