وليس الغَرضُ في هذا المقام استقصاء هذه الشبهات واللوازم على وجه التفصيل وإبطالها، بل بيان المستند الذي ارتكز عليه المخالفون في هذا الباب، والذي كان سبباً لانحرافهم في توحيد الربوبية، وجماع شبهتهم تعود إلى: إنكارهم للغيب وإيمانهم بالمحسوسات المجردة.
لأجل ذلك فمن لم ير الله جحد وجوده وآمن بالمحسوسات المادية وهؤلاء هم الملاحدة، فهم ينكرون وجود الله بحجة أن العقل أو العلم ينكره؛ لأنهم يريدون أن يؤمنوا بشيءٍ يمكن لعقولهم أن تصل إليه، أو أن تستدل عليه، قال تعالى:{بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} يونس: ٣٩.
بينما نجد الذين اعترفوا بوجود الله، وأشركوا معه غيره، ضلوا في علم الغيب كذلك، فآمنوا بالمحسوسات ونزعوا إلى الوثنية في اتّخاذهم الوسائط إلى الله تعالى والتوجّه إليها بالعبادة ولو عن طريق مجاوزة الحدّ في تعظيمها وإضفاء الصفات الإلهية عليها.
والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنما أرسل الرسل للبلاغ عن عالم الغيب {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (٢٦) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} الجن: ٢٦ - ٢٧، وهو عالم لا يمكن أن تحيط العقول البشرية به علماً؛ وإنما غاية الأمر أن تستدل عليه وأن تؤمن به وتثبته في الجملة.
والانحراف الذي وقع فيه الناس في هذه المسألة هو أكبر انحراف وأعظم ضلال؛ فكل من ضل في معرفة الله تبارك وتعالى، وكل من أشرك مع الله تبارك وتعالى غيره، وكل من أنكر الرسل وجحدهم وكذب ما جاءوا به؛ كل ذلك إنما هو لأنه لم يؤمن بالغيب.
- رابعاً: أثر اجتماع الرد على البدع المتقابلة في موطن واحد.
أتت هذه الآية للرد على من نفى وجود الله وللرد كذلك على من أشرك مع الله، فدلت بمفهومها على منهج أهل السنة والجماعة وهو: الإيمان والتصديق بكل ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الأقوال والأفعال والصفات، من دون أن يكون لله - عز وجل - فيها شريك.
لذلك كانت هذه الآية الكريمة دالةً على أن المذهب الحق ليس هو ما ذهب إليه أصحاب البدع المتقابلة، بل هو ما سعد به أهل السنة والجماعة، من إثبات توحيد الربوبية.
ولا تثبت ربوبية الله إلا بالإيمان بالغيب، الذي يعد علامة من علامات المؤمنين، وأول صفة من صفاتهم {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} البقرة: ٣، وهذا مفرق الطريق بينهم وبين الكافرين والملحدين