للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

هذه الآية الكريمة فيها ردٌ على ما ذهب إليه القدرية، قاصدو تعظيم الرب - سبحانه وتعالى - وتنزيهه عما ظنوه قبيحاً من الأفعال وظلماً، فزادوا على ما وصف الله به نفسه من تحريم الظلم عليها (١)، فأنكروا عموم قدرته ومشيئته، وزعموا أن أفعال العباد غير مخلوقة لله، وزعموا أيضاً أن العبد يحدثها أو يخلقها دون الله، ويتضح الرد عليهم في قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}، كما دلت نصوص الكتاب والسنة على أن الله سبحانه هو خالق الخلق وأفعالهم كقوله - عز وجل -: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢)} سورة الزمر: ٦٢، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (٩٦)} سورة الصافات: ٩٦.

- ثانياً: بيان وجه رد الآية على بدعة الإفراط.

كما أن فيها رداً على بطلان مذهب الجبرية منكري حكمة الله ورحمته، القائلين: بأنه - عز وجل - لم يخلق لحكمة، ولم يأمر لحكمة، القائلين: بأن العبد مجبور على أفعاله، فأتى الرد عليهم في هذه الآية عند قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} فنسب - سبحانه وتعالى - العمل للعبد وجعل التفاضل بينهم بسببه؛ وأثبت سبحانه وتعالى الحكمة من خلق العباد، وهي في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)} الذاريات: ٥٦، ومن أجلها تتم محاسبتهم، وعلى قدر تحقيقها تكون درجاتهم في الجنة.

- ثالثاً: المأخذ الذي انطلقت منه هاتان الطائفتان.

الباعث لهم على الانحراف عن الإيمان بالقدر، ومنابذة الأدلة والبراهين، هو:

توظيفهم الأقيسة الفاسدة في مقابل تلك الأدلة والبراهين؛ بحيث أرادت القدرية تنزيه الله عن الظلم والشر، وعما ظنوه قبيحاً من الأفعال وظلماً، فأنكروا عموم قدرته ومشيئته، ولم يجعلوه خالقاً لكل شيء، ولا أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ثم إنهم وضعوا لربهم شريعة فيما يجب عليه ويحرم بالقياس على أنفسهم، وتكلموا في التعديل والتجويز بهذا القياس الفاسد الذي شبهوا فيه الخالق بالمخلوق، فضلوا وأضلوا.

كما أرادت الجبرية أن تنزه الله عن العجز الذي رماه به القدرية فأثبتت لله - عز وجل - خلق المخلوقات وأمر المأمورات لا لعلة ولا لحكمة؛ بل لمحض المشيئة والإرادة، لأجل هذا ساووا


(١) كما في الحديث القدسي، عن الله تبارك وتعالى، أنه قال: ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ... ))، صحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم برقم (٢٥٧٧).

<<  <   >  >>