للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الآية الثالثة:

قوله تعالى: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣)} سبأ: ٢٣، هذه الآية تردُ على بدعتين متقابلتين، وبيان ذلك فيما يلي:

- أولاً: بيان وجه رد الآية على بدعة التفريط.

الملائكة عباد الله اختارهم واصطفاهم، ولهم مكانة عند ربهم، والمؤمن الذي يعبد الله، ويتبع رضوانه لا مناص له من أن يتولى الملائكة بالحب والتوقير، ويتجنب كل ما من شأنه أن يسيء إليهم ويؤذيهم، خاصة وأن الملائكة ممن تشفع للمسلمين يوم القيامة (١)، قال تعالى: {إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} فنص تعالى على أن الشفاعة يوم القيامة تنفع عنده - عز وجل - ممن أذن له فيها ورضي قوله، ولا يخفى أن الله تعالى بوأ الملائكة المكانة العليا لديه، واصطفاهم وقربهم منه سبحانه، ووصفهم بصفات تقتضي احترامهم وإكرامهم وحبهم.

فكانت هذه الآية رادةً على من أنقص الملائكة عن الحق المشروع لهم من التعظيم والمحبة، قال ابن حزم - رحمه الله -: " وصح بالنص أن كل من استهزأ بالله تعالى، أو بملك من الملائكة، أو بنبي من الأنبياء -عليهم السلام-، أو بآية من القرآن، أو بفريضة من فرائض الدين؛ فهي كلها آيات الله تعالى بعد بلوغ الحجة إليه فهو كافر" (٢).

- ثانياً: بيان وجه رد الآية على بدعة الإفراط.

الملائكة هي من أعظم وأكبر من عُبِدَ من دون الله، وسبب عبادتها كان التوسل بهم إلى الله تعالى (٣)،

وطلب القربة إليه؛ لأجل صلاحهم، لذلك قالوا: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}


(١) سلف الأمة وأئمتها، ومن تبعهم من أهل السنة والجماعة، أثبتوا ما جاءت به السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، من شفاعته لأهل الكبائر من أمته، وغير ذلك من أنواع شفاعاته، وشفاعة غيره من النبيين والملائكة. وقالوا: إنه لا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد، وأقروا بما جاءت به السنة من انتفاع الإنسان بدعاء غيره وشفاعته.
ينظر: اقتضاء الصراط المستقيم (٢/ ٨٣٠).
(٢) الفصل في الملل والأهواء والنحل (٢/ ٢٧٥).
(٣) من اتخذ الشفعاء هو بين حالات:
أـ إما أن يظن أن الله سبحانه يحتاج إلى من يدبر أمر العالم معه.
ب ـ وإما أن يظن أن الله سبحانه إنما تتم قدرته بقدرة الشفيع.

ج ـ وإما أن يظن أنه لا يعلم حتى يعلمه الشفيع، أو لا يجيب دعاء عباده حتى يسألوا الشفيع أن يرفع حاجتهم إليه كما هو حال ملوك الدنيا.
د ـ أو يظن أنه لا يسمع حتى يرفع الشفيع إليه ذلك.
هـ ـ أو يظن أن للشفيع عليه حقا، فهو يقسم عليه بحقه، ويتوسل إليه بذلك الشفيع كما يتوسل الناس إلى الأكابر والملوك بمن يعز عليهم، ولا تمكنهم مخالفته.
وكل هذا هضم لحق الربوبية وتنقص للعظمة الإلهية، وسوء ظن برب العالمين كما قال تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} الفتح: ٦ الآية.
ينظر: تيسير العزيز الحميد (ص ٢٠٢).

<<  <   >  >>