للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وتلافيا للوقوع في هذا المزلق الخطير، أمر الشارع الحكيم بالقصد وهو الوسط في العمل؛ فقد بوب البخاري - رحمه الله - في صحيحه باب القصد والمداومة على العمل، في كتاب الرقاق، وذكر فيه حديث عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: ((أدومها وإن قلَّ)) (١) وقال: ((اكلفوا من الأعمال ما تطيقون)) (٢).

وليس من الغلو طلب الأكمل في العبادة؛ بل الغلو تجاوز الأكمل إلى ما يؤدي إلى المشقة ونحوها، وليس الجفاء هو طلب الحد الأدنى من العبادة بل هو طلب التخفيف والتسهيل لحد الخروج عن شرعه وتجاوز حدوده باسم الدين.

قال ابن المنير - رحمه الله -: وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة، فإنه من الأمور المحمودة، بل منع الإفراط المؤدي إلى الملال أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل (٣).

ومن يظن أن إعمال نصوص الشرع تؤدي للغلو، فإنه واهم؛ لأنه لا تلازم بين التمسك بالنصوص والغلو؛ فقد كان الصحابة € أشد الناس تمسكاً والتزاماً لنصوص الشريعة مطلقاً (٤)، ومع هذا لم يحصل لهم غلو أو تشديد، إلا في قضايا عينية (٥) في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - أرشد أصحابه إليها وعلمهم وبين لهم طريق العبادة المعتدل، فانتهوا (٦).

[المعلم السادس: عدم وضوح الأصول الاعتقادية]

المتأمل لواقع أكثر أصحاب التوجهات التي تميل إلى الغلو والعنف أو إلى الجفاء والتمييع يجد أن أصولهم الاعتقادية غير واضحة المعالم، ولا يكون ذلك إلا عن نقص كما لا يخفى، فهم يتميزون بالجهل وضعف الفقه في الدين، وضحالة الحصيلة في العلوم الشرعية، فحينما


(١) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب القصد والمداومة على العمل برقم (٦٠١١)، ورواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضيلة العمل الدائم برقم (١٣١١).
(٢) رواه مسلم في كتاب الصيام باب النهي عن الوصال في الصوم برقم (١٨٥٤).
(٣) ينظر: فتح الباري (١/ ٩٤)، والغلو في الدين ص (٨٥).
(٤) لا يوجد أحد من الصحابة كان صاحب بدعة أو مقالة، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتى ما يوعدون)).
(٥) كقصة عبد الله بن عمرو بن العاص في إطالة الصوم، المتفق على صحتها. رواها البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب كم يقرأ من القرآن، ومسلم في كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به، وكحديث عبد الله بن الشخير في وفد بني عامر وفيه " فقلنا: أنت سيدنا. فقال: السيد الله تبارك وتعالى ". فقلنا: وأفضلنا فضلا وأعظمنا طولا فقال: قولوا بقولكم أو ببعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان " رواه أبو داود والنسائي بأسانيد جيدة. وما قوله عليه السلام ذلك إلا سدا لطريق الغلو فيه.
ينظر: فتح المجيد (ص ٥١٧).
(٦) ينظر: التحذير من الغلو في ضوء القرآن والسنة، أ. د. بدر بن ناصر البدر، مؤتمر ظاهرة التكفير (٥/ ٢٥٧٣).

<<  <   >  >>