للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال ابن كثير - رحمه الله -: "هذا يحتمل معنيين: أحدهما: أفي وجوده شك؟ فإن الفطر شاهدة بوجوده ومجبولة على الإقرار به. فإن الاعتراف به ضروري في الفطر السليمة، ولكن قد يعرض لبعض الفطر شك واضطراب فيحتاج إلى النظر في الدليل الموصل إلى وجوده، ولهذا قالت لهم الرسل ترشدهم إلى طريق معرفته بأنه فاطر السموات والأرض- أي: الذي خلقهما وابتدعهما على غير مثال سبق- فإن شواهد الحدوث والخلق والتسخير ظاهر عليهما. فلا بد لهما من صانع وهو الله لا إله إلا هو خالق كل شيء وإلهه ومليكه.

والمعنى الثاني: أفي إلهيته وتفرده بوجوب العبادة له، شك؟ وهو الخالق لجميع الموجودات ولا يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له، فإن غالب الأمم كانت مقرة بالصانع، ولكن تعبد معه غيره من الوسائط التي يظنونها تنفعهم أو تقربهم من الله زلفى" (١).

- ثانياً: بيان وجه رد الآية على بدعة الإفراط.

في هذه الآية ردٌ على من أشرك مع الله في ربوبيته، ممن اعتقد خالقاً أو مدبراً غير الله، كمثل ما اعتقد الفلاسفة القائلون بأنه: "العقل الفعال"، والصابئة القائلون إنه: المدبر الأقرب، والطبائعيون المعتقدون: "بأن الطبيعة هي من خلقت نفسها"، والمانوية المعتقدون ذلك في الأرواح الطيبة بزعمهم، والنصارى واعتقادهم في المسيح -عليه السلام-، وغيرهم ممن ضل في هذا الباب، سواء جعلوا ما اعتقدوه مشاركاً لله أو منفرداً بالخلق دون الله - عز وجل -، كما أن فيها رداً على من نفى صفة الخلق عن الله - عز وجل - كالجهمية وغيرهم -من باب تنزيه الله عن مشابهة الحوادث (٢) -، أو القدرية القائلين بأن كل إنسان يخلق فعل نفسه - من باب تنزيه الله عن الظلم-.

فرد الله عليهم إفراطهم في ربوبيته بقوله: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، وفي هذا لفت انتباه لمخلوقات الله تعالى وعظيم خلقه، وأنه لا شريك له - عز وجل - في ربوبيته؛ وهل يخفى على ذي بصيرة أن هذا إبداع المبدع الحكيم وتقدير العزيز العليم، بل وجوده سبحانه وربوبيته وقدرته أظهر من كل شيء على الإطلاق.


(١) ينظر: تفسير ابن كثير (٤/ ٤٨٢).
(٢) هؤلاء أفرطوا في تنزيه الله عن الشبيه، فنفوا عنه جميع الصفات، وبعض الطوائف نفت بعضها.

<<  <   >  >>