للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ودين الإسلام وسط لا تشديد فيه ولا تحلل منه، فكلا الطرفين مذموم، والوسط خير، ولهذا قال سبحانه: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} المائدة: ٧٧، وقال -عليه الصلاة والسلام-: ((هلك المتنطعون)) قالها ثلاثاً (١).

فالخروج عن هذا المنهج، والتنكب عن هذه العقيدة الواضحة، يفضي بصاحبه: إما إلى غلو وإفراط، وإما إلى تفريط وتضييع، وإما إلى الجمع بينهما (٢)،

وكُل ذلك مذموم في دين الله، وخروج عن المنهج الوسط الذي اختاره الله للأمة (٣). وعدم الجنوح إلى الإفراط أو التفريط هو عين الحكمة وجوهرها.

الآية الثالثة: قال الله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (٧)} الفاتحة: ٦ - ٧.

هذه الآية تحذر من الغلو والجفاء اللذين هما طرفا النقيض للاستقامة، التي أشارت إليها الآية السابقة ونبهت إلى وجوب لزوم الصراط المستقيم الذي لا عوج فيه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - منبهاً إلى هذا الملحظ: " ولما أمرنا الله سبحانه: أن نسأله في كل صلاة أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين المغايرين للمغضوب عليهم وللضالين (٤) كان ذلك مما يبين


(١) أخرجه مسلم كتاب العلم، باب هلك المتنطعون، برقم (٢٦٧٠).
(٢) كما يفعل أهل البدع من الشيعة وغيرها، فهم يجمعون بين البدع المتقابلة إما في مسألة واحدة أو في مسائل متفرقة، مما يبين تناقضهم.
ألا ترى أن الشيعة تجمع في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنهم، بين سيئتي الإفراط والتفريط، والغلو والجفاء؛ فلهم في بعض الصحابة غلو وإفراط، أشنعه القول بالألوهية والنبوة، وأدناه تفضيل وتقديم من غلو فيه على من هو أفضل وأولى بالتقديم منه، كما لهم في البعض الآخر من الصحابة تقصير وتفريط وجفاء، أعظمه القول بتكفيرهم ولعنهم، وأدناه القول بتأخيرهم عن مرتبتهم والقعود بهم عن مكانتهم، ولهم بين هذا وذاك فيهم أقوال وآراء، تتردد بين الغلو والإزراء، ليس لهم على شيء منها دليل، إلا اتباع الظنون والأهواء.

ينظر: وسطية أهل السنة بين الفرق (ص ٤٠٥).
(٣) ينظر: الإسلام ينهى عن الغلو، الحقيل (٤ - ٥)، الغلو في الدين، أ. د. عبد القادر صوفي (١٢ - ١٤)، الغلو وأثره في ظاهرة التكفير، لجمال محمد السيد عبد الحميد (ص ٢٤٩٩).
(٤) اليهود أعداء الله وأعداء أنبيائه ورسله؛ فإنهم كانوا هم والنصارى على طرفي نقيض فنسبوه إلى أنه ولد بغي، قاتلهم الله. فأكذبهم الله تعالى في كتابه وأبطل قولهم كما أبطل قول الغلاة من النصارى فيما تقدم من الآيات ونحوها. فالنصارى غلوا في عيسى ابن مريم -عليه السلام- أعظم الغلو والكفر والضلال، واليهود جفوا في حقه غاية الجفاء، وكلاهما قد ضل ضلالا بعيدا، نبه الله تعالى في مواضع كثيرة من كتابه وبين تعالى الحق والصدق، ورفع قدر المسيح -عليه السلام- وجعله من أولي العزم الخمسة المذكورين في سورة الأحزاب (آية ٧) والشورى (آية ١٣) وأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يصبر كما صبروا فقال: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} الأحقاف: ٣٥، فهم أفضل الرسل على التحقيق، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أفضلهم -صلوات الله وسلامه- عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
ينظر: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد (ص ٤٢)، وكتاب التوحيد وقرة عيون الموحدين في تحقيق دعوة الأنبياء والمرسلين (ص ١٧).

<<  <   >  >>