للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

في الدين، أي: لا تغلو بأي نوع من أنواع الغلو في الدين، وإن كان الخطاب فيها موجهاً لأهل الكتاب إلا أن العبرة بعموم اللفظ كما هو قول أكثر أهل العلم (١).

قال القاسمي - رحمه الله - (٢): " ميزان العدل (لا تغلوا في دينكم غير الحق) أي: لا تتجاوزوا الحد في تعظيم عيسى وأمه، وترفعوهما عن رتبتهما إلى ما تقولتم عليهما من العظيمة، فأدخلتم في دينكم اعتقاداً غير الحق بلا دليل عليه، مع تظاهر الأدلة على خلافه ... و (الغلو) نقيض التقصير، ومعناه الخروج عن الحد؛ وذلك لأن الحق بين طرفي الإفراط والتفريط، ودين الله بين الغلو والتقصير" (٣). والحاصل: أنه لا يأتي الغلو في شيء إلا ورافقه الجفاء، فكما أن الغلو من المنهيات، فالتقصير والتفريط كذلك (٤)، فالنهي عن الغلو يتضمن النهي عن الجفاء.

والغلو له جانبان أو صورتان: غلو في التمسك والتشدد في التطبيق، لم يأذن به الله، ولم تأت به شريعته، التي من أصولها (رفع الحرج، والتيسير) (٥).

والصورة الأخرى للغلو: غلو في الانحلال والتميع، والتفلت من نصوص الشرع وقواعده، يؤدي إلى التطاول على مُحكَماتِه، وهو أيضا مما يأباه الله ورسوله والمسلمون.

ولا ننس في غمرة الانشغال بالأول: الإنكار على الثاني، وبالدرجة نفسها، فإن الصورة الثانية من الغلو (في جانب التفريط) تكون غالبا من أسباب الغلو في صورته الأولى، والواقع خير دليل (٦).


(١) وهو رأي جمهور العلماء، حتى اشتهر بين العلماء: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

ينظر: الإحكام للآمدي (٢/ ٣١٨)، العدة (٢/ ٥٩٦ وما بعدها) إرشاد الفحول للشوكاني (١/ ٤٨٠ وما بعدها).
(٢) هو: محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم الحلاق، المعروف بالقاسمي، نسبة إلى جده، من سلالة الحسين السبط: إمام الشام في عصره، علم بالدين، ومتضلع من فنون الأدب. مولده ووفاته في دمشق (١٢٨٣ - ١٣٣٢ هـ)، من مؤلفاته: تفسيره محاسن التأويل، ودلائل التوحيد، مذاهب الأعراب وفلاسفة الإسلام في الجن، وإصلاح المساجد من البدع والعوائد وغيرها.
ينظر: الأعلام (٢/ ١٣٥)، ومعجم المؤلفين لعمر كحالة (٣/ ١٥٧).
(٣) محاسن التأويل (٤/ ٢١٨).
(٤) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص ٢١٦).
(٥) عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت: " ما خير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما فإن كان إثما كان أبعد الناس منه"، رواه مسلم في كتاب الفضائل باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام واختياره من المباح أسهله وانتقامه لله عند انتهاك حرماته برقم (٢٣٢٧).
(٦) ينظر: الغلو مفهومة وحقيقته وصوره وأسبابه وعلاجه، لعبد الله بن محمد الغليفى (ص ٣٠).

<<  <   >  >>