للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وماله (١). وأما المعتزلة فقالوا: إن مرتكب الكبيرة في الدنيا خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر، فهو بمنزلة بين المنزلتين (٢).

القسم الثالث: أهل السنة والجماعة، وهم من جمعوا الإحسان كله، فقد توسطوا فلا إفراط ولا تفريط، فجعلوا الإنسان مستحقا اسم الإيمان واسم الإسلام، ولو كان معه شيء من الذنوب وشيء من المعاصي، فمرتكب الكبيرة عندهم ناقص الإيمان، قد نقص إيمانه بقدر ما ارتكب من معصيته، فلا ينفون عنه الإيمان أصلا ولا يخرجونه من الإسلام بالكلية كالخوارج والمعتزلة، الذين يكفرون بكل ذنب، وكذلك لم يكونوا كالجهمية المرجئة؛ الذين يجعلونه كامل الإيمان، ويعتقدون أن المعاصي (٣) لا تضره! ، بل جعلوه مؤمنا ناقص الإيمان، أو قالوا: هو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته (٤).

وبالجملة فإن الأصل الذي نشأ منه النزاع بين المبتدعة في مسائل الإيمان، وسبب انحرافهم فيه، أصل واحد اتفقت عليه الأطراف المتناقضة جميعاً، وانطلقوا منه: هو أن الإيمان شيء (٥) واحد لا يزيد ولا ينقص ولا يتبعض، وأنه لا يجتمع في القلب الواحد إيمان ونفاق، ولا يكون في أعمال العبد الواحد شعبة من الشرك وشعبة من الإيمان (٦)، ثم تضاربت عقائدها المؤسسة عليه، فانقسم الناس إلى طرفين متقابلين، طرف انتهج الغلو والإفراط والزيادة! ! وطرف سلك طريق التقصير والتفريط والنقصان! .

وقد بين شيخ الإسلام ذلك الأصل الذي كان سبباً لنشوء تلك الضلالات، وكشف عن تلك اللوازم بقوله: " وأصل نزاع هذه الفرق في الإيمان؛ من الخوارج، والمرجئة، والمعتزلة،


(١) ولهذا كفروا عليًّا ومعاوية وأصحابهما، واستحلوا منهم ما يستحلون من الكفّار.
(٢) ينظر: الملل والنحل للشهرستاني (١/ ١١٤)، والخوارج في العصر الأموي لنايف محمود معروف (١٨٧/ ١٩٤)، وتاريخ الطبري (٥/ ٥٥)، ودراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين للدكتور أحمد محمد جلي (ص ٥٣).
(٣) المعاصي لا تخرج العبد من الإيمان ولكن عليه منها ضرر، فإنها قد تجتمع على العبد فتهلكه، ولا يخلد في النار؛ ولكن يستحق دخولها، ويعذب بقدر سيئاته، إذا كان من أهل العقيدة الصحيحة، ومن أهل الإسلام، ولكن معه ذنب.
(٤) ينظر: شرح السنة للبربهاري (ص ٧٣)، شرح أصول اعتقاد أهل السنة (١/ ١٦٢، ١٧٥، ١٧٦)، شرح السنة للبغوي (١/ ١٠٣)، مجموع الفتاوى (٣/ ١٥١، ٣٧٤) (٤/ ٣٠٧)، شرح الطحاوية (٢/ ٥٢٤)، عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني (ص ٢٧٦).
(٥) وهو ما أطلقوا عليه بعد استخدام المصطلحات الفلسفية والمنطقية "الماهية"، وقالوا: إن للإيمان ماهية معينة لا تقبل التعدد ولا التبعيض، إما أن توجد وإما أن تفقد فلا أبعاض له بحيث يذهب بعضه ويبقى بعضه. وسيأتي مزيد بيان لهذا.
(٦) ينظر: مجموع الفتاوى (٧/ ٥١٠).

<<  <   >  >>