للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الآية الثالثة:

قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)} الذاريات: ٥٦، في هذه الآية ردٌ على بدعتين متقابلتين، وبيان ذلك فيما يلي:

- أولاً: بيان وجه رد الآية على بدعة التفريط.

في هذه الآية رد على غلاة القدرية، الذين نفوا القدر وعطلوه، فجاء قوله تعالى: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} للتعليل، وهذا التعليل لبيان الحكمة من الخلق، وهي الإرادة الدينية الشرعية، فليس المراد بقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)} وقوع العبادة، بل الأمر بها على وجه الابتلاء، ثم من وقعت منه فقد امتثل للإرادة الشرعية وكان وقوع هذا الامتثال منه من الإرادة القدرية الكونية، ومن لم تقع منه فإن مخالفته للإرادة الشرعية لا تخرج عن الإرادة القدرية الكونية.

- ثانياً: بيان وجه رد الآية على بدعة الإفراط.

في هذه الآية رد على غلاة الجبرية، الذين عارضوا الشرع بالقدر، فعطلوا الأوامر وانتهكوا المناهي، فأبطل الله - عز وجل - احتجاجهم بالقدر على ترك الطاعة، بقوله: {لِيَعْبُدُونِ}، ولفظ الآية وظهور العموم فيها يقتضى فعلا يفعلونه هم، والمراد أن الأمر بالعبادة الشرعية على جهة الابتلاء، لينظر الله - عز وجل - من يحسن عملاً فيطيع أمر ربه ويمتثل شرعه، ومن يسيء فيعصي ويكفر، وهذا المعنى دلت عليه آيات أخرى في كتاب الله، وجاءت دلالتها له على وجهين: إما مفسرة له، أو شاهدة له.

أما المفسرة: فنحو قوله سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢)} الملك: ٢، وغيرها من الآيات (١) التي تصرح بأن حكمة خلق الله - عز وجل - للخلق هي ابتلاؤهم أيهم أحسن عملاً، وهذا يفسر قوله: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (٢).

وأما الشاهدة: فنحو قوله سبحانه: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (١١٥)} المؤمنون: ١١٥، فهذا إنكار من الرب -سبحانه وتعالى- لعباده عن أن يظنوا أنه يتركهم سدى


(١) ينظر: سورة الإنسان آية (٢)، والكهف آية (٧)، وهود آية (٧)، والتوبة آية (٣١)، والبينة آية (٥)، وغير ذلك.
(٢) ينظر: أضواء البيان (٧/ ٦٧٣).

<<  <   >  >>