للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومن هذه الشبهات التي ظل بسببها المبتدعة في باب القدر:

أ-قولهم: لو كانت أفعال العباد خلقاً لله لبطل التكليف والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولسقطت بعثة الرسل، ولقبحت المساءلة والمحاسبة والمعاقبة؛ لأنه لا يجوز أن ينهى الله عما خلقه، ولا أن يأمر بما يفعله هو؛ إذ لا فائدة من ذلك، كما أنه لا يجوز أن يثيب ويعاقب على فعله (١).

ب- أنه يحسن المدح على الحسن من أفعال الناس والذم على قبيحها دون المدح والذم على حسن الهيئة وضده، أو طول القامة وقصرها، فدل هذا الفرق على أن أفعال العباد محدثة من جهتهم بخلاف الهيئة والصورة فإنها من عند الله (٢).

ت- أنا "نحتاج في هذه الأفعال إلى آلات وقدر وارتفاع الحواجز؛ لأنه إذا أراد الرامي الإصابة فلا بد له من قوس وآلة، وألا يكون بينه وبين المرمى حاجز، وأن يكون عالماً، وأن يكون قوياً ليبلغ الرمي بشدة اعتماده، ولو كان من فعل الله تعالى لما احتاج إلى ذلك؛ لأنه تعالى فيما يفعله لا يحتاج إلى هذه الأمور، تعالى الله عن ذلك" (٣).

وكل هذا مردود بالكتاب والسنة والإجماع (٤)، بأن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، وليس بعد الحق إلا الضلال، مع ضرورة التسليم بالشرع والقدر، واستحالة التعارض بينهما (٥).


(١) ينظر: شرح الأصول الخمسة (٣٣٤ - ٣٣٥).
(٢) ينظر: شرح الأصول الخمسة (ص ٣٣٢).
(٣) مختصر أصول الدين للقاضي عبد الجبار (١/ ٢٣٨).
(٤) منهج السلف الصالح جمعوا بين الدليل المنقول، والدليل المعقول، فأدلتهم على إثبات القدر هي أدلة المثبتين له من الجبرية، لكنهم استدلوا بها على وجه العدل، وجمعوا بينها وبين الأدلة التي استدل بها نفاة مشيئة العبد وقدرته، وبهذا نعرف أن كلاً من الجبرية والقدرية نظروا إلى النصوص بعين الأعور الذي لا يبصر إلا من جانب واحد، فهدى الله أهل السنة والجماعة لما اختلف فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
ينظر: كتاب القول المقيد على كتاب التوحيد، شرح ابن عثيمين (ص ٢٠٩).
(٥) ووجه استحالة التعارض بين الشرع والقدر أن كلاً منهما معلوم من الدين بالضرورة، والضرورة من حيث هي ضرورة لا يمكن أن تكون محتملة أو قابلة للإبطال؛ لأن حقيقة كونها ضرورية أن تكون ثابتة بإطلاق، وما كان كذلك لم يقبل المعارضة بدعوى المناقض؛ لأن ما كان ثابتاً في نفسه يستحيل أن يدل دليل صحيح على عدم ثبوته، وهذه قواعد من المسلمات التي لا يمكن الشك فيها مع تصورها على وجهها. ينظر: الخلاف العقدي في باب القدر (ص ٤٦).
وقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية عدم التعارض بين هذين الأصلين، وبين أن كلاً منهما أصل ضروري لا يمكن نفيه، وبنى على ذلك الرد على كل من طائفتي القدرية والجبرية في دعوى كل منها أنهم قد أخذوا بما هو مقتضى الضرورة، وأن كلا منهما قد خالف ما ضرورة في حقيقة الأمر، وفي بيان وجه مخالفتهم لهاتين الضرورتين. ينظر: منهاج السنة (٣/ ٢٣٩ - ٢٤٠).

<<  <   >  >>