للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ذلك بشيء من كتب الأوائل: اليهود والنصارى والمجوس والصابئين، فإنهم قرأوا كتبهم، فصار عندهم من ضلالتهم ما أدخلوه في مسائلهم ودلائلهم، وغيروه في اللفظ تارة، وفي المعنى أخرى! فلبسوا الحق بالباطل، وكتموا حقا جاء به نبيهم، فتفرقوا واختلفوا وتكلموا حينئذ في الجسم والعرض والتجسيم، نفيا وإثباتا" (١).

قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: "فلعسر الفرق والتمييز، يميل قوم إلى زيادة في الإثبات، وآخرون إلى زيادة في النفي العام، ولهذا كان مذهب الإمام أحمد والأئمة الكبار: النهي عن الإثبات العام والنفي العام، بل إما الإمساك عنهما، وهو الأصلح للعموم، وهو جمل الاعتقاد، وأما التفصيل المحقق فهو لذي العلم من أهل الإيمان، كما أن الأول لعموم أهل الإيمان" (٢).

وقال أيضاً: " هذا الغلو من جانب الإثبات يقابل التكذيب من جانب النفي، وكلاهما خارج عن السنة والجماعة" (٣).

لذلك جاءت الأساليب القرآنية بلفت الأنظار بذكر الموازنة بين الضدين، وإثبات عدم المساواة بينهما لتأخذ بالقلوب نحو اختيار النافع والصالح، وترك ما سواه، كما أن للقرآن الكريم أساليب متعددة في توجيه أولي الألباب إلى المفاضلة بين الضدين وعدم المساواة بينهما (٤)، ولفظة البدع المتقابلة سيتناولها هذا البحث، من جهة المقابلة في المعنى (٥) دون اللفظ.

وقد أوضح ابن الأثير - رحمه الله - بخصوص (التقابل المعنوي)، بقوله: "واعلم أن في تقابل المعاني باباً عجيب الأمر، يحتاج إلى فضل تأمل، وزيادة نظر وتدبر" (٦).


(١) شرح الطحاوية (٢/ ٧٩٩).
(٢) مجموع الفتاوى (١٢/ ٤٣١).
(٣) مجموع الفتاوى (٣/ ٤٠٤).
(٤) اعتمد القرآن الكريم في خطابه أسلوب المقابلات؛ وذلك بأن يقابل بين الأشخاص، ويقابل بين الأعمال، ويقابل بين النتائج، ويقابل بين البدع الباطلة والرد عليها، فإذا تحدث عن المؤمنين أتبعه بالحديث عن الكافرين، وإذا تحدث عن العاملين المخلصين أردفه بالحديث عن القاعدين المهملين، وإذا تحدث عن عاقبة المتقين قرنه بالحديث عن عاقبة المكذبين، وإذا رد على بدعة رد على ما يقابلها من البدع، وعلى هذا السَّنَن يجري الخطاب في القرآن الكريم.
(٥) ومن أمثلة (التقابل) المعنوي، قوله سبحانه: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (٢٣)} الأنبياء: ٢٣. وبيان (التقابل) هنا من جهة المعنى: أن في الآية رداً على طائفتين متقابلتين من طوائف المبتدعة. فردت هذه الآية على من نفى أفعال الله-من القدرية - بأنه سبحانه (يَفْعَلُ)؛ وقد ذكر ابن القيم - رحمه الله - تعالى أن أدلة إثبات الحكمة والتعليل في أفعال الله تزيد على عشرة آلاف دليل .. ينظر شفاء العليل (١/ ٥٧٣). وفيها رد كذلك على نفاة أفعال العباد -من الجبرية- بأنهم (يُسْأَلُونَ)؛ ونسبة السؤال إليهم فيه دلالة على أنهم قادرين ومحاسبين على أعمالهم.
(٦) الجامع الكبير في صناعة المنظوم من الكلام والمنثور (ص ٢١٥).

<<  <   >  >>