للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهذا الفهم المغلوط لحقيقة الإيمان وتعريف معناه؛ كان بسبب توهمهم أن الإيمان لو كان مركباً للزم منه ذهابه كله بذهاب بعضه، ولخرج العصاة من الإيمان، وهو قول الخوارج، وللزم منه اجتماع الإيمان والكفر في الشخص، وهذا مخالف للأصل الذي اعتمدوه (١)، فلما كان ارتكاب المحظورات وترك الفرائض هو من جنس الأعمال لا الاعتقادات، وكانت النصوص الكثيرة (٢) والنظر العقلي يدلان على فساد قول الخوارج والمعتزلة، اتفقت سائر فرقهم على إخراج الأعمال من مسمى الإيمان، وحصره في تصديق القلب وقول اللسان، وإنكار زيادة الإيمان ونقصانه حتى يسلم لهم الأصل المذكور، فيظل تارك الفريضة أو مرتكب المحرم مؤمناً، بل لم يتورع بعضهم عن التصريح بمساواة إيمانه بإيمان الملائكة والنبيين بناء على هذا الأصل (٣).

من أجل ما آل إليه هذا الفهم من ظهور للبدع، فقد بين شيخ الإسلام - رحمه الله - المنهج الصحيح في ذلك، فقال: " ومما ينبغي أن يُعلم أن الألفاظ الموجودة في القرآن والحديث إذا عرف تفسيرها وما أريد بها من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولا غيرهم؛ ولهذا قال الفقهاء: الأسماء ثلاثة أنواع:

نوع يُعرف حده بالشرع؛ كالصلاة والزكاة.

ونوع يُعرف حده باللغة؛ كالشمس والقمر.

ونوع يُعرف حده بالعرف؛ كلفظ القبض، ولفظ المعروف في قوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} النساء: ١٩، ونحو ذلك ... فاسم الصلاة والزكاة والصيام والحج ونحو ذلك قد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما يُراد بها في كلام الله ورسوله، وكذلك لفظ الخمر وغيرها، ومن هناك يعرف معناها، فلو أراد أحد أن يفسرها بغير ما بينه النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لم يقبل منه، وأما الكلام في اشتقاقها ووجه دلالتها؛ فذاك من جنس علم البيان، وتعليل الأحكام، وهو زيادة في العلم وبيان حكمة ألفاظ القرآن، لكن معرفة المراد بها لا يتوقف على هذا.


(١) بأن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، وأنه لا يجتمع في القلب الواحد إيمان ونفاق، ولا يكون في أعمال العبد الواحد شعبة من الشرك وشعبة من الإيمان.
(٢) كنصوص دخول الموحدين الجنة مهما عصوا ولو بعد حين، ونصوص إثبات الإسلام لمرتكب الكبيرة.
(٣) ينظر: مقالات الإسلاميين للأشعري (ص ١٣٢)، والبرهان في معرفة عقائد أهل الأديان للسكسكي (ص ٣٣)، وظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي (٢/ ٤٠٢).

<<  <   >  >>