للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والإجماع على عدم تكفير مرتكب الكبيرة، ورأت أيضاً مخالفتهم للضرورة العقلية في مساواتهم بين المستحق للعذاب الأليم وهو الكافر، وبين من هو دون ذلك وهو مرتكب الكبيرة عندهم، أرادت الجمع بين الضرورتين: العقلية التي تقضي باستحالة التفاوت والضرورة الشرعية التي تدل على عدم استحقاق مرتكب الكبيرة لاسم الكفر، فتكايست لذلك لكنها في الوقت ذاته تناقضت من حيث أرادت الفرار من التناقض، وابتدعت القول: (بالمنزلة بين المنزلتين)، والتي حقيقتها نفي الإيمان عن مرتكب الكبيرة، وفي الوقت ذاته عدم تكفيره، والذهاب إلى إطلاق اسم "الفاسق" عليه.

أما المرجئة بشتى فرقها، فإنها ذهبت هي أيضاً إلى سلامة الأصل الذي استند إليه كل من الخوارج والمعتزلة، وهو استحالة التفاوت في حقيقة الإيمان بناء على استحالة الجمع بين النقيضين- ورأت أيضاً أن ما التزمت به كلتا الطائفتين مخالف للدلائل الشرعية الدالة على ثبوت وصف الإيمان لمرتكب الكبيرة، فدعاها ذلك إلى إخراج العمل من مسمى "الإيمان" ظناً منها أن سبب ضلال الفرقتين هو إدخالُهما العمل في حقيقة الإيمان، ولم توفق إلى معرفة أن سبب الضلال عند التحقيق، هو التزامهم جميعاً بتلك الشبهة التي تفرعت عنها جميع تلك اللوازم الفاسدة.

فتلك الشبهة قد جمعت تلك الفرق التي خالفت أهل السنة والجماعة، وإن اختلفوا في بيان حقيقة الإيمان عند كل منها؛ سواء من جعل هذه الحقيقة خصلة واحدة: وهم المرجئة، أو جعلها حقيقة مركبة -وهم الوعيدية-، فهم متفقون على التزام ذاك الأصل وهو دعوى استحالة التفاوت والتبعض في الإيمان، ذلك أنهم جعلوا الإيمان خصلة واحدة: فجعلوا قبول التفاوت فيه يستلزم ذهابه بذهاب بعضه واضمحلاله، ذلك لأن القول بنقص الإيمان يلزم منه أن يخلفه نقيضه وهو الكفر فيقوم بالعبد كفر وإيمان وهو ممتنع؛ لأنه من باب اجتماع النقيض مع نقيضه في شخص واحد، لذا امتنع القول بإمكان التفاوت (١).


(١) ينظر لما سبق: دفع دعوى المعارض العقلي عن الأحاديث المتعلقة بمسائل الاعتقاد، لعيسى النعمي (١٢٣ - ١٣٩).

<<  <   >  >>