للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أنقصها عن قدرها الذي ارتضاه الله - عز وجل - لها، فلم يتقرب إلى الله بحبها ولم يطمع في شفاعتها؛ لأن الشفاعة كذلك أمر غيبي (١).

ومنهم من قاسها على المخلوقين، فاتخذ الملائكة شفعاء من جنس ما يعهدونه من الشفاعة عند المخلوقين؛ لأنهم أهل قرب ومنزلة وجاه وفضل، ومن كان كذلك فقد تأهل للشفاعة، قال الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨)} يونس: ١٨، فنفى الله - عز وجل - هذه الشفاعة التي أثبتها المشركون، وظنوها حاصلة ممن قصدوه وتوجَّهوا إليه، وسألوه رغبا ورهبا.

رابعا: أثر اجتماع الرد على البدع المتقابلة في موطن واحد.

أتت هذه الآية الكريمة للدلالة على أن المذهب الحق هو ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة، فهم وسط في مسألة الشفاعة بين الغلاة والجفاة، فقد أجمعوا على ثبوت الشفاعة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وللملائكة والصالحين من عباد الله تعالى، كما نطَق بذلك القرآن العزيز والسنَّة الصحيحة المتواترة، وبذلك انعقد إجماع أئمَّة الأمة، ولم يشذَّ عنهم إلا المُبتدعة من الفِرَق المارقة، ومن ثَمَّ كانت من المعلوم من الدين بالضرورة.

وكما أثبت أهل السنة الشفاعة، فهم لا يطمعون فيها إلا بشروطها (٢)، قال تعالى: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} سبأ: ٢٣، وقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢)} سبأ: ٢٢.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - معقباً على الآيتين السابقتين: " نفى عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط من الملك أو يكون عونا لله، ولم يبق إلا الشفاعة، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} البقرة: ٢٥٥. وقال تعالى عن الملائكة: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ

يَعْمَلُونَ (٢٧)


(١) هذه الغيبيات لا مصدر لها إلا الله ورسوله، وليس أمام المؤمنين إلا الإيمانُ بها كما وردتْ، أما العقل والاجتهاد، فليس لهما فيها مجال، من أجل هذا ضل من ضل في هذا الباب لعدم إيمانهم بالغيب، وعدم امتثالهم لكل ما جاء في الكتاب والسنَّة.
(٢) إذن الله للشافع أن يشفع- وأن يرضى الله عن الشافع- وأن يرضى الله عن المشفوع له.
ينظر: قرة عيون الموحدين (ص ٩٧).

<<  <   >  >>