للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقد استَدلَّ أصحابُنا على أنَّ المدينةَ أفضلُ من مكةَ بهذا الحديث، ورَكَّبوا عليه قولَه - صلى الله عليه وسلم -: "مَوضِعُ سَوْطٍ في الجنةِ خيرٌ من الدُّنيا وما فيها" (١). وهذا لا دليلَ فيه على شيءٍ مما ذهَبوا إليه؛ لأنَّ قولَه هذا إنّما أرادَ به ذمَّ الدنيا والزُّهدَ فيها، والتَّرغيبَ في الآخِرَة، فأخبرَ أنَّ اليَسيرَ من الجَنّة خَيْرٌ من الدُّنيا كلِّها، وأرادَ بذِكْر السَّوط - واللهُ أعلم - التَّقليل، لا أنّه أرادَ مَوْضعَ السَّوْط بعَيْنِه، بل موضعُ نصفِ سَوْطٍ ورُبُع سَوْطٍ من الجَنّةِ الباقيةِ خيرٌ من الدُّنيا الفانية، وهذا مثلُ قولِ الله عزَّ وجلَّ: {مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ} [آل عمران: ٧٥]. لم يُردِ القِنطارَ بعينِه، وإنَّما أرادَ الكثيرَ، وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ} [آل عمران: ٧٥]،، لم يُرِدْ به الدِّينارَ بعَيْنِه، وإنَّما أرادَ القليلَ؛ أي: أنَّ منهم مَن يُؤتَمنُ على بيتِ مالٍ فلا يخونُ، ومنهم مَن يُؤتَمنُ على فِلسٍ أو نحوِه فيَخُون.

على أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "رَوضَةٌ من رياضِ الجَنّة"، مُحتمِلٌ ما قال العُلماءُ فيه ممّا قد ذكَرناه، فلا حُجَّةَ لهم في شيءٍ مما ذهَبوا إليه، والمواضعُ كلُّها والبِقاعُ أرضُ الله، فلا يجوزُ أنْ يُفضَّلَ منها شيءٌ على شيءٍ إلّا بخبر يجبُ التَّسليمُ له، وإنِّي لأعْجَبُ ممّن يَترُكُ قولَ رسولِ الله - صلي الله عليه وسلم - إذ وقفَ بمكّةَ على الحَزْوَرَة، وقيل: على الحَجُون (٢)، فقال: "والله إنِّي لأعلَمُ أنّكِ خيرُ أرضِ الله وأحَبُّها إلى الله ولولا أنَّ أهلَكِ أخرَجوني منكِ ما خرَجتُ". وهذا حديثٌ صحيحٌ رواه أبو سلمةَ بنُ عبد الرحمن، عن أبي هريرة، وعن عبدِ الله بنِ عَديِّ بنِ الحمراءِ جميعًا،


(١) أخرجه الحميدي في مسنده (٩٣٠)، وأحمد في المسند ٢٤/ ٣٣٦ (١٥٥٦٤)، والبخاري (٣٢٥٠) من حديث أبي حازم سلمة بن دينار، عن سهل بن بن سعد الساعديّ رضي الله عنه.
(٢) الحَجُون: جبلٌ بأعلى مكّة، عنده مدافن أهلها، ونقل ياقوت الحموي عن أبي سعيد السكّري قوله: مكانٌ من البيت على ميلٍ ونصف، وعن السهيلي: على فرسخ وثلث (معجم البلدان ٢/ ٢٢٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>