للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال: حدَّثنا شعبةُ، عن قتادةَ، عن أنسِ بن مالكٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُتِي بلحم، فقال: "ما هذا؟ ". فقالوا: شيءٌ تُصُدِّقَ به على بَريرةَ. قال: "هو لها صدقةٌ، ولنا هديَّةٌ".

قال أبو عمر: ففي هذه الآثار ما يَدُلُّ على أنَّ الصدقةَ إذا تحوَّلَتْ إلى غيرِ معناها حلَّتْ لِمَن لمْ تكنْ تَحِلُّ له قبلَ ذلك.

وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: "هو عليها صدقةٌ، وهو لنا هديَّةٌ" دليلٌ واضحٌ على أنَّ ما لم يُحرَّمْ لعينِه، كالميْتَةِ، والخنزيرِ، والدمِ، والعَذِرات، وسائرِ النَّجاسَاتِ، وما أشبهَها، وحُرِّم لعلَّةٍ عرَضت من فعلِ فاعلٍ إلى غيرِه من العِلَلِ، فإنَّ تَحريمَه يَزولُ بزوالِ العلَّة، ألا ترَى أنَّ الدِّرهمَ المغصوبَ والمسروقَ حرامٌ على الغاصبِ والسارقِ من أجلِ غَصْيِه له وسَرِقتِه إيَّاه، فإن وهَبَه له المغصوبُ منه أو المسروقُ منه طَيِّبةً به نفسُه، حلَّ له، وهو الدِّرهمُ بعينِه.

وقد اعتَلَّ قومٌ ممن نفَى القياسَ في الأحكام، وزعَم أنَّ التعَبُّدَ بالأسماءِ دونَ المعاني، بحديثِ بريرةَ هذا في قصةِ اللحم والصدقةِ به والهديَّة، وزعَم أنَّ ذلك اللحمَ لمَّا سُمِّي صدقةً حَرُم، فلمَّا سُمِّي هديةً حَلَّ. فجاء بتخليطٍ من القولِ وخَطَل، واحتجَّ على مذهبِه في ذلك بقولِ الله عزَّ وجلَّ: {لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} (١) [البقرة: ١٥٤]. وللكلام في هذا البابِ موضعٌ غيرُ هذا، ولو ذكَرناه هاهنا خرَجنا عمَّا شرَطنا وعمَّا له قَصَدنا. وباللّه توفيقُنا وعليه توكَّلْنا.


(١) والإشارة بذلك إلى داود بن عليِّ الأصبهاني وأهل الظاهر. ينظر: كتاب الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم: الباب الثامن والثلاثون في إبطال القياس في أحكام الدين ٧/ ٥٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>