للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

شيئًا يُنكَرُ عليه، ففَرع إلى الخبرِ عن رسولِ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه، ليُثْبِتَ له بذلك فعلَه، وجَب التَّثبُّتُ فيما جاء به إذا لَمْ تُعْرَفْ حالُه حتى يَصحَّ قولُه، فأراهم ذلك، ووافقَ أبا موسَى، وإن كان عندَه معروفًا بالعدالَةِ غيرَ مُتَّهَم؛ ليكونَ ذلك أصلًا عندَهم، وللحاكم أنْ يجتَهِدَ بما أمْكنَه إذا أراد به الخيرَ، ولم يَخْرُجْ عمَّا أُبيحَ له، واللّهُ أعلمُ بما أرادَ عمرُ بقولِه ذلك لأبي موسَى. وعلى هذا قولُ طاووسٍ، قال: كان الرجلُ إذا حدَّث عن رسولِ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُخِذَ حتى يَجيءَ ببيِّنةٍ، وإلَّا عُوقِبَ (١). يعني: ممَّن ليس بمعروفٍ بالعدالةِ ولا مشهورٍ بالعلم والثِّقَةِ، ألا ترَى إلى إجماعِ المسلمين أنَّ العالمَ إذا حدَّث عن رسولِ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان مشهورًا بالعلم، أُخِذَ ذلك عنه، ولم يُنْكَرْ عليه، ولم يَحْتَجْ إلى بَيِّنَةٍ؟ ومن نحوِ قولِ طاووسٍ هذا قولُ سعدِ بنِ إبراهيمَ رحِمه اللهُ: لا يُحدِّثُ عن رسولِ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا الثِّقاتُ (٢). أيْ كلُّ مَن إذا وُقفَ أحالَ على مخرَجٍ صحيحٍ، وعلمٍ ثابتٍ، وكان مستورًا لَمْ تَظْهَرْ منه كبيرةٌ، وباللّه التوفيقُ.

قال أبو عمر: وأمّا قولُ من قال: إنَّ عمرَ لَمْ يعرِفْ أبا موسى. فقولٌ خرَج عن غيرِ رَوِيَّةٍ ولا تَدَبُّرٍ، ومنزلةُ أبي موسى عندَ عمرَ مشهورةٌ، وقد عَمِل له، وبعَثه رسولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عاملًا وساعِيًا على بعض الصَّدَقاتِ، وهذه منزِلَةٌ رفيعةٌ في الثِّقَةِ والأمانَة.

وفي قولِ عمرَ رضِي اللهُ عنه، في حديثِ عُبيدِ بنِ عميرٍ الذي ذكَرْناه في هذا الباب (٣): خَفِي عليَّ هذا من أمرِ رسولِ الله، - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ألْهاني عنه الصَّفْقُ في الأسواقِ. اعترافٌ منه بجَهْلِ ما لَمْ يَعلمْ، وإنْصافٌ صحيحٌ، وهكذا يجبُ على كلِّ مؤمن.


(١) أخرجه الرّويانيُّ في مسنده (٥٧٧) من طريق الليث بن سعد عن الحسن بن مسلم بن يناقُ، عنه، به.
(٢) أخرجه الدارمي (٤٢٩)، ومسلم في مقدمته ١/ ١٥، وأبو زرعة الدمشقي في تاريخه (١٤٨٣) من طريق سفيان بن عيينة عن مسعر بن كدام، به.
(٣) سلف تخريجه.

<<  <  ج: ص:  >  >>