للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال أبو عمر: ففي هذا الحديثِ دليلٌ على أنَّ النَّهْيَ عن ذلك خَشْيَةَ مُواقعةِ الحرام، واللّهُ أعلمُ، وإذا كان ذلك كذلك، فواجبٌ أن تكونَ الكراهية باقيةً على كلِّ حالٍ؛ لأنَّ الخشيةَ أبدًا غيرُ مرتفعةٍ، ويكونُ على هذا المعنَى قولُه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فانْتَبِذوا فيما بَدا لكم" كشفًا عن المراد، لا أنَّه نَسْخٌ أباح فيه ما حَرَّمَ قبلُ، هذا ما يَحْضُرُني من التأويلِ فيه، وباللّه التوفيقُ.

وممَّا يَدُلُّ على أنَّ الوَجْهَ ما ذكَرْنا، ما خرَّجه أبو داودَ (١)، عن مُسَدَّدٍ، عن يحيى القَطَّانِ، عن الثوريِّ، عن منصورٍ، عن سالمِ بن أبي الجَعْدِ، عن جابرِ بنِ عبدِ الله، قال: لما نهَى رسولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الأوعيةِ قالت الأنصارُ: إنَّه لا بُدَّ لنا، قال: "فلا إذنْ".

وهذا حديثٌ صحيحٌ، وَيدُلُّ على ذلك أيضًا اختِلافُ الفقهاءِ في هذا الباب، مع عِلْمِهم بهذا الحديثِ وروايَتِهم له. وذكَر ابنُ القاسم (٢)، عن مالكٍ، أنَّه كَرِه الانْتِباذَ في الدُّبَّاءِ والمُزَفَّتِ، ولا يَكْرَهُ غيرَ ذلك.

قال أبو عمر: هذا لِما خَشِيَ من سُرعةِ الفسادِ إلى النَّبيذِ في هذينِ الظَّرْفَين. واللّهُ أعلمُ. وكَرِهَ الثورِيُّ الانتِباذَ في الدُّبَّاءِ والحَنتمِ، والنَّقيرِ، والمُزَفَّتِ. وقال الشافعيُّ: لا أكرَهُ من الأنْبِذَةِ، إذا لَمْ يكنِ الشرابُ يُسكِرُ، شيئًا بعدَ ما سُمِّي في الآثار؛ من الحَنْتَم، والنَّقِيرِ، والدُّبَّاءِ، والمُزَفَّت (٣).

قال أبو عمر: قد أحاط عِلْمُنا بأنَّ مالكًا، والثوريَّ، والشافعيَّ، روَوُا الآثارَ الناسخةَ المذكورةَ في هذا الباب، وعنهم رَوَيْناها، فلا وجهَ لكَراهِيَتِهم الانتِباذَ


(١) في سننه برقم (٣٦٩٩)، وهو عند البخاري (٥٥٩٢) من طريق يحيى بن سعيد القطان، به. مسدّد: هو ابن مسرهد، ومنصور: هو ابن المعتمر.
(٢) في المدوّنة ٤/ ٥٢٤.
(٣) ينظر: الأمّ للشافعيّ ٦/ ١٩٤، ومختصر اختلاف العلماء للطحاوي ٤/ ٣٦٧ حيث أورد الأقوال المذكورة.

<<  <  ج: ص:  >  >>