للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أنّ عُبادةَ أنكَر على معاويةَ شيئًا، فقال له: لا أُساكنُك بأرضٍ أنت بها. ورحَل إلى المدينة، فقال له عمرُ: ما أقدَمَك؟ فأخبَره، فقال له: ارجِعْ إلى مكانِك، فقبَّح اللهُ أرضًا لستَ فيها ولا أمثالُك. وكتب إلى معاويةَ: لا إمارةَ لك عليه.

قال أبو عُمر: فقولُ عُبادةَ: لا أُساكِنُك بأرضٍ أنت بها. أو قولُ أبي الدَّرداء على ما في حديثِ زيدِ بن أسلمَ، يَحتملُ أن يكونَ القائلُ ذلك قد خافَ على نفسِه الفتنةَ لبقائِه بأرضٍ يَنفُذُ فيها في العلم قولٌ خلافُ الحقِّ عندَه، وربَّما كان ذلك منه أنَفةً لمجاورةِ من رَدَّ عليه سُنَّةً عَلِمَها من سُننِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - برأيِه، وقد تضيقُ صدورُ العلماءِ عندَ مثل هذا، وهو عندَهم عظيمٌ؛ رَدُّ السُّننِ بالرَّأي. وجائزٌ للمرءِ أن يهجُرَ من خاف الضَّلالَ عليه، ولم يسمَعْ منه ولم يُطِعْه، وخاف أن يُضلَّ غيرَه، وليس هذا من الهجرةِ المكروهةِ، ألا ترى أنّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أمَر الناسَ ألّا يُكلِّموا كعبَ بنَ مالكٍ حينَ أحدَث في تخلُّفِه عن تبوكَ ما أحدَث، حتى تاب اللهُ عليه (١)؟ وهذا أصلٌ عندَ العلماء في مجانبةِ من ابتدَع، وهجرتِه، وقطعِ الكلام معه. وقد حلَف ابنُ مسعودٍ ألّا يُكلِّمَ رجلًا رآه يَضحَكُ في جِنازةٍ.

أخبرنا عبدُ الرحمن بن يحيى، قال: حدَّثنا أحمدُ بن سعيدٍ، قال: حدَّثنا عبدُ الملك بن بحرٍ، قال: حدَّثنا موسى بن هارونَ، قال: حدَّثنا العبّاسُ بن الوليدِ، قال: حدَّثنا سفيانُ، عن عبد الرحمن بن حُميدٍ الرُّؤاسيِّ، عن رجلٍ من عَبْسٍ، أنّ ابنَ مسعودٍ رأى رجلًا يضحَكُ في جنازةٍ، فقال: تضحَكُ وأنت في جنازةٍ؟! والله لا أُكلِّمُك أبدًا (٢).

وغيرُ نكيرٍ أن يجهلَ معاويةُ ما قد عَلِم أبو الدَّرداءِ وعُبادةُ؛ فإنّهما جليلان من فقهاءِ الصَّحابةِ وكُبَرائِهم.


(١) الأمر مشهور لا يحتاج إلي بيان.
(٢) أخرجه أحمد في الزهد، ص ١٣٣ عن سفيان بن عيينة، به، وابن أبي الدنيا في القبور (٦٤) من طريق سفيان، به، وإسناده ضعيف لجهالة الراوي عن ابن مسعود.

<<  <  ج: ص:  >  >>