حديثِ قتادةَ، عن سعيدِ بن المُسَيِّب، منها هذا، وأمّا ما جاء عن ابن عمرَ من روايةِ مالكٍ في "مُوَطَّئه"، وما قد ذكرناه عنه هاهنا، فإنّ الحديثين وإنْ تدافَعا فإنّه قد يَحتَمِلُ أنْ يُخَرَّجا على غير وجهِ التَّدافُع؛ بأنْ يُحْمَلا على أنّ قولَه: ذلك إلى الله. أنّه أرادَ بذلك القبولَ، أي: أنّه يتَقَبَّلُ أيَّتَهما شاء، فقد يتَقَبَّلُ اللهُ النافلةَ التَّطوُّعَ ولا يتَقَبَّلُ الفريضةَ، وقد يتَقَبَّلُ اللهُ الفريضةَ دونَ التَّطوُّع، وقد يتقبَّلُهما بفضلِه جميعًا، وقد لا يَقْبَلُ واحدةً منهما، وليس كلُّ صلاةٍ مقبولةً، وقد كان بعضُ الصالحين يقولُ: طُوبَى لمن تُقُبِّلَتْ منه صلاةٌ واحدةٌ. قال ذلك على جهةِ الإشْفاقِ، وقد رَوَيْنا عن ابن عمرَ مثلَ هذا ومَعْناه:
أخبَرنا أحمدُ بن قاسمٍ، قال: حدَّثنا محمدُ بن عيسى، قال: حدَّثنا عليُّ بن عبد العزيز، قال: حدَّثنا أبو عُبيدٍ، قال: حدَّثنا هشامُ بن عمّارٍ، قال: حدَّثنا هشامُ بن يحيى الغَسَّانيُّ، عن أبيه، قال: جاء سائلٌ إلى ابن عمرَ، فقال لابنه: أعْطِه دينارًا. فقال له ابنُه: تَقَبَّلَ اللهُ منكَ يا أبتاهُ. فقال: لو عَلِمْتُ أنّ اللهَ تَقَبَّلَ منِّي سجدةً واحدةً، أو صدقةَ درهم واحدٍ لم يَكنْ غائبٌ أحبَّ إليَّ من الموتِ، أتَدْرِي ممن يتَقَبَّلُ اللهُ:{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}[المائدة: ٢٧](١).
فكان ابنُ عمرَ، واللهُ أعلمُ، وسعيدُ بن المُسيِّب إذا سألَ كلَّ واحدٍ منهما السَّائلُ: أيَّتُهما صلاتي؟ أي: أيَّتُهما التي يتَقَبَّلُ اللهُ منّي؟ أجابَه كلُّ واحدٍ منهما بأنّ ذلك ليس إليه عِلْمُه، وأنّ ذلك أمرٌ عِلْمُه إلى الله، وهو تأويلٌ مُحتمَلٌ صحيحٌ، وقد تأوَّل هذا التَّأويلَ عبدُ الملكِ بن الماجِشُون، وقال: إنّ الأولَى هي صلاتُه. والنَّظرُ يُصَحِّحُ ما قالَه؛ لإجماعِ الفقهاءِ القائلين بأنّ شهودَ الجماعةِ ليس بفرض واجبٍ،
(١) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق ٣١/ ١٤٦ من طريق هشام بن عمار، به. وابن الجوزي في صفة الصفوة ١/ ٢١٩ من طريق هشام بن يحيى الغساني، به.