للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأما قولُه في هذا الحديثِ: "اشتكَتِ النَّارُ إلى ربِّها، فقالت: ياربِّ، أكَل بعضي بعضًا" الحديث، فإن قومًا حمَلوه على الحقيقةِ، وأنها أنطَقها الذي أنطَق كلَّ شيءٍ. واحتجُّوا بقولِ الله عزَّ وجلَّ: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ} [النور: ٢٤] وبقولِه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: ٤٤] وبقوله: {يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ: ١٠]. أي سبِّحي معه. وقال: {يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} [ص: ١٨] وبقوله: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق: ٣٠]. وما كان من مثلِ هذا، وهو في القرآن كثيرٌ. حمَلوا ذلك كلَّه على الحقيقة لا على المجاز، وكذلك قالوا في قولِه عزَّ وجلَّ: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان: ١٢]. و {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [الملك: ٨]. وما كان مثلَ هذا كلِّه.

وقال آخرون في قولِه عزَّ وجلَّ: {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان: ١٢] {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ}: هذا تعظيمٌ لشأنِها، ومثلُ ذلك قولُه عزَّ وجلَّ: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف: ٧٧]، فأضاف إليه الإرادةَ مجازًا (١). وجعَلوا ذلك من بابِ المجازِ والتَّمثيلِ في كلِّ ما تقدَّمَ ذكرُه، على معنى أنَّ هذه الأشياءَ لو كانت مما تنطِقُ أو تفعَلُ، لكان هذا نُطقَها وفعلَها. وذكَروا قولَ حسانَ بنِ ثابتٍ (٢):

لوَ أنَّ اللُّؤمَ يُنسَبُ كان عبدًا ... قبيحَ الوجهِ أعورَ من ثقيفِ

وسُئلَ المبرِّدُ عن قولِ المَلَكِ: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} [ص: ٢٣] وهم الملائكةُ لا أزواجَ لهم؟ فقال: نحن طولَ النَّهارِ نفعَلُ


(١) وذلك أنّ الإرادة إنما تكون في الحيوان المُبين -أي الإنسان- والجدارُ لا يريد إرادة حقيقية، إلّا أن هيأته للسُّقوط قد ظهرت كما تظهر أفعال المريدين القاصدين، فوُصف بالإرادة إذ الصورتان واحدة، وهذا كثير في الشعر واللغة؛ قاله الزَّجاج في معاني القرآن وإعرابه ٣/ ٣٠٦.
(٢) ديوانه ص ١٤٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>