للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ما لم يَنطِقْ به لسانٌ، أو تَعْمَلْ به جارِحَةٌ، وما اعْتَقَده القلبُ من المعاصي ما خلا الكفرَ، فليس بشيءٍ حتى يَعمَلَ به، وخَطَراتُ النُّفوسِ مُتَجاوَزٌ عنها بإجماعٍ (١)، والحمدُ للّه.


(١) دعوى الإجماع في هذا ليست على إطلاقها، فللعلماء في مثل هذه الأحاديث والآيات الواردة في هذا المعنى آراء مختلفة؛ منها ما قال النووي: "وأمّا قوله -صلى الله عليه وسلم-: إنّ الله تجاوز لأُمَّتي ما حدَّثتْ به أنفَسَها ما لم يتكلَّموا أو يعملوا به" [أخرجه البخاري (٦٦٦٤)، ومسلم (١٢٧) من حديث أبي هريرة]. وفي الحديث الآخر: "إذا همَّ عبدي بسيِّئةٍ فلا تكتبوا عليه، فإن عملها فاكتبوها سيِّئةً، وإذا همَّ بحسنةٍ فلا يعملها فاكتبوها حسنةً، فإن عملها فاكتبوها عشرًا" [أخرجه مسلم (١٢٨) من حديث أبي هريرة] ... قال الإمام المازريُّ رحمه الله: مذهب القاضي أبي بكر بن الطيِّب: أنّ مَن عَزَم على المعصية بقلبه ووَطَّن نفسَه عليها أثِمَ في اعتقاده وعَزْمِه، ويُحمل ما وقع في هذه الأحاديث وأمثالها على أنَّ ذلك فيمن لم يوطِّن نفسَه على المعصية: وإنما مرَّ ذلك بفكره من غير استقرار، ويُسمّى هذا هَمًّا، ويُفرَّق بين الهَمِّ والعَزْمِ؛ هذا مذهب القاضي أبي بكر، وخالفه كثيرٌ من الفقهاء والمحدِّثين وأخذوا بظاهر الحديث. قال القاضي عياض رحمه الله: عامّة السَّلف وأهل العلم من الفقهاء والمحدّثين على ما ذهب إليه القاضي أبو بكر للأحاديث الدالَّة على المؤاخذة بأفعال القلوب ... " ثم قال النَّووي: "وهو ظاهرٌ حسنٌ لا مزيد عليه، وقد تظاهرت نصوص الشرع بالمؤاخذة بعزم القلب المستقرِّ، ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: ١٩]، وقوله تعالى: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: ١٢].
وقال الحافظ ابن حجر بعد أن ساق كلام النووي: ويمكن أن يُستدلَّ لذلك من عموم قوله: "أو تعمل" لأن الاعتقاد هو عمل القلب.
وعلى هذا جاء كلام شيخ الإسلام ابن تيمية موجِّهًا لكلام ابن عبد البرِّ، قال: "فإنَّ ما هَمَّ به العبد من الأمور التي يقدر عليها من الكلام والعمل ولم يتكلَّم بها ولم يعملها، لم تكن إرادته لها جازمة، فتلك ممّا لم يكتبها الله عليه كما شهد به قولُه: "مَنْ هَمَّ بسيِّئةٍ فلم يعملها"، ومَن حكى الإجماعَ كابن عبد البرِّ وغيره في هذه المسألة على هذا الحديث فهو صحيح بهذا الاعتبار". ينظر: شرح النووي على مسلم ٢/ ١٥١ - ١٥٢، وفتح الباري ١/ ٧١، ومجموع الفتاوى ١٠/ ٧٣٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>