للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقالت منهم طائفةٌ أخرى: لسْنا نقول: إنَّ المُرْسَلَ أوْلَى مِن المُسْنَد، ولكِنَّهما سَواءٌ في وُجوبِ الحُجَّةِ والاسْتِعمال. واعتلُّوا بأنَّ السَّلفَ رِضوانُ اللَّه عليهم أرْسَلُوا، ووَصَلُوا، وأسْنَدُوا، فلم يَعِبْ واحدٌ منهم على صاحبِه شيئًا مِن ذلك، بل كلُّ مَن أسْنَدَ لم يَخْلُ مِن الإرْسال، ولو لم يكُنْ ذلكَ كلُّه عندَهم دِينًا وحقًا ما (١) اعْتَمدُوا عليه؛ لانا وجَدْنا التابِعِين إذا سُئِلُوا عن شيءٍ مِن العِلْم، وكان عندَهم في ذلك شيءٌ عن نَبِيِّهم -صلى اللَّه عليه وسلم- أو عن أصحابِه رضي اللَّهُ عنهم، قالوا: قال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كذا، وقال عمرُ كذا. ولو كان ذلك لا يوجِبُ عملًا ولا يُعَدُّ عِلْمًا عندَهم، لما قنَع به العالِمُ مِن نفْسِه، ولا رضِيَ به منه السائل.

وممَّن كان يذهبُ إلى هذا القولِ مِن أصحابِنا: أبو الفرج عمرُو بنُ محمدٍ المالكيُّ، وأبو بكْرٍ محمدُ بنُ عبدِ اللَّه بنِ صالح الأبْهَرِيُّ، وهو قولُ أبي جَعْفَرٍ محمدِ بنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِي. وزعَم الطَّبَرِيُّ أنَّ التابِعينَ بأَسرِهم أجْمَعُوا على قَبُولِ المُرْسَلِ ولم يَأْتِ عنهم إنْكارُه، ولا عن أحَدٍ مِن (٢) الأئمَّةِ بعدَهم إلى رأسِ المئتَيْن. كأنَّه يعْنِي أنَّ الشافعيَّ أوَّلُ مَن أبَى مِن قَبُولِ المُرْسَلِ (٣).

وقالتْ طائفةٌ أخْرى من أصحابِنا: لسنا نقُول: إنَّ المُسْنَدَ الذي اتَّفقتْ جماعةُ أهلِ الفقهِ والأثرِ في سائرِ الأمصارِ، وهم الجماعةُ، على قَبُولِه والاحتجاج به


(١) في ف ١: "لما".
(٢) سقط حرف الجر من م.
(٣) إنما يُحمل كلام ابن جرير الطبري بهذا على ما فسّره الزركشيُّ في النكت على مقدّمة ابن الصلاح ١/ ٤٩٢ فقال: "فإن قلت: يؤيّد دعوى ابن الحاجب قولُ الإمام محمد بن جرير الطبري: إنكارُ المرسل بدعةٌ حدثت بعد المئتين. قلت: إن ثبت عنه فمُرادُه: حدث القول به (يعني بقبوله أو عدمه) لمّا احْتِيج إليه، لأنّ أحدًا قبل ذلك لم يكن يعمل به، فلمّا تطاوَلَ الزمنُ احْتِيجَ إلى إنكاره، فكانت بدعةً واجبةً".

<<  <  ج: ص:  >  >>