للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قالوا: وقد يَحتمِلُ أن يكونَ قولُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّهم لا يَسْتَرقُون، ولا يَكْتَوون" أن يكونَ قصَد إلى نوع من الكيِّ مكروهٍ منهيٍّ عنه، أو يكونَ قصَد إلى الرُّقَى بما ليس في كتابِ الله، ولا من ذِكْرِه. وقد جاءَ عن أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ كراهيةُ الرُّقيةِ بغيرِ كتابِ الله، وعلى ذلك العلماءُ، وأباحَ لليهوديَّةِ أن تَرقِيَ عائشةَ بكتابِ الله (١).

قال أبو عُمر: هذا كلُّه قد نزَع به أو ببعضِه مَن قصَد إلى الرَّدِّ على القولِ الأوَّلِ. والذي أقولُ به أنَّه قد كان من خيارِ هذه الأُمَّةِ وسَلَفِها وعلمائِها، قومٌ يَصبِرون على الأمراضِ حتى يَكشِفَها اللهُ، ومعهم الأطبَّاءُ، فلم يُعابوا بتَرْكِ المعالجةِ، ولو كانتِ المعالجةُ سُنَّةً من السُّننِ الواجبةِ، لكان الذَّمُّ قد لحِق مَن تَرَك الاسترقاءَ والتَّداويَ، وهذا لا نعلمُ أحدًا قاله، ولكان أهلُ الباديةِ والمواضع النائيةِ عن الأطبَّاءِ، قد دخَل عليهم النَّقصُ في دينِهم لِتَرْكِهم ذلك، وإنَّما التَّداوي، واللهُ أعلمُ، إباحةٌ، على ما قدَّمنا؛ لِمَيلِ النفسِ إليه، وسُكونِها نحوَه، {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد: ٣٨]، لا أنَّه سُنَّةٌ، ولا أنَّه واجبٌ، ولا أنَّ العلمَ بذلك علمٌ موثوقٌ به لا يُخالَفُ؛ بل هو خَطَرٌ (٢) وتجربةٌ موقوفةٌ على القَدَرِ، واللهَ نسألُه العِصمةَ والتوفيقَ. وعلى إباحةِ التَّداوي والاسترقاءِ جمهورُ العلماءِ.


(١) أخرجه مالك في الموطأ ٢/ ٥٣٢ (٢٧١٧) عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن، أنّ أبا بكرٍ الصِّديق دخل على عائشةَ وهي تشتكي ويهوديّةٌ تَرْقيها، فقال أبو بكر: ارْقيها بكتابِ الله.
وأخرجه عن مالكٍ الشافعي في الأم ٧/ ٢٤١، وفي عَقِبه: قال الربيع: فقلت للشافعيِّ: فإنّا نكره رُقية أهل الكتاب: فقال: ولمَ وأنتم تَرْوُون هذا عن أبي بكر، ولا أعلمكم تَرْوُون عن غيره من أصحاب النبيّ -صلى الله عليه وسلم- خلافَه؟ وقد أحلَّ الله جلَّ ذِكرُه طعامَ أهل الكتاب ونساءهم، وأحسِبُ الرُّقيةَ إذا رَقوا بكتاب الله مثلَ هذا أو أخفَّ.
(٢) أي: حَظٌّ ونصيب. ينظر: تاج العروس مادة (خطر)، والمراد: أنّ أمر التَّداوي إنما هو مرهونٌ بالقَدَر بما فيه من توفيق وعكسِه.

<<  <  ج: ص:  >  >>