للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

في هذا الحديثِ مِن روايةِ مالِكٍ مِن الفقه: إباحَةُ شُرْبِ اللبنِ، وأنَّ ذلك ليس مِن الإسرافِ؛ لأنَّه مُسْتَحِيلٌ أن يَأتيَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- في أكْلِه أو شُرْبِه سرَفًا.

وفيه دليلٌ على أنَّ مَن قُدِّمَ إليه شيءٌ يأْكُلُه أو يَشْرَبُه حَلالًا، فليس عليه أن يَسْألَ: من أين هو؟ وما أصْلُه؟ إذا عَلِم طِيبَ مَكْسَبِ صاحِبِه في الأغلبِ مِن أمرِه، ألا تَرَى أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- لم يَسْألِ الذي أتاه باللبنِ: مِن أين لك هذا؟

وفيه: إجازَةُ خَلْطِ اللبنِ بالماء لمن أراد شرْبَه، ولم يُرِدْ به البيعَ؛ لأنَّ قولَه: "قد شِيبَ بماءٍ" أي: قد خُلِط بماءٍ، ومعنى الشَّوْبِ: الخَلْطُ، وجَمْعُه أشوابٌ (١). وإنَّما قُلْنا: إذا لم يُرِدْ به البيعَ؛ لأنَّ خَلْطَ الماءِ باللبنِ غِشٌّ، وقد قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن غَشَّنا فليس منَّا" (٢)، وقد بلَغَني أنَّ عمرَ بنَ الخطابِ أهْراقَ لبنًا قد شِيبَ بماءٍ، على مُرِيدِ بيعِه والغِشِّ به (٣).

وفيه: مجُالسَةُ أهلِ الباديةِ وتَقْريبُهم، إذا كان لذلك وجْهٌ.

وفيه: أنَّ المجلِسَ عن يمينِ الرجلِ وعن يَسارِه سَواءٌ، إذ لو كان الفضلُ عن يمينِ الرجلِ، لما آثَر به رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أعرابيًّا على أبي بكرٍ. ويحتَمِلُ أن يكونَ ذلك أيضًا دليلًا على أنَّ مَن سبَق مِن مجلِسِ العلم إلى مكانٍ كان أوْلَى به مِن غيرِه، كائنًا مَن كان، ودَليلًا على أنّه لا يُقامُ أحدٌ مِن مجلِسِه لأحَدٍ، وإنْ كانَ أفضَلَ منه.


(١) أي: أخلاط من أنواع شتّى، ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (٦٧)} [الصافات: ٦٧] أي: لخَلْطًا ومزِاجًا. (اللسان مادة "شوب").
(٢) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنَّف (٢٣٦٠٧)، ومسلم (١٠١) من حديث سهيل بن أبي صالح، عن أبيه ذكوان السَّمّان، عن أبي هريرة رضي الله عنه. وسيأتي بإسناد المصنّف في سياق شرحه للحديث الحادي عشر من أحاديث مالك عن نافع.
(٣) قال المؤلف ذلك -والله أعلم- لاعتقاده بأنّ الذي شيب بالماء هو الحليب الذي تسمّيه العرب "لبنًا" أيضا. قال بشار: وأكبر الظنّ أن الذي قدّم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو اللبن المخيض، وعادةً ما يُشاب بالماء لتخفيف حموضته، فصار تعليق المؤلف -بذلك- لا معنى له.

<<  <  ج: ص:  >  >>